خواطر وذكريات عن سعيد حورانية (2من2)

حينما كنت منذ أيام في زيارة الأخ والصديق القديم عبد الله صباغ في مكتبه بجريدة (النور)، كان كعادته مشغولاً بالكتابة، وأنا ،حين أزور عادة، أحد الأصدقاء في مكتبه، لا أحب أن أثقل عليه أو أن أشغله عن عمله.

 اسمح لي أن أريحك من عناء القراءة والكتابة  خمس دقائق فقط.. أو عشراً على الأكثر ويستقبلني الصديق.. تفضل.. انتظر قليلاً حتى أنتهي من تدقيق ما بين يدي… وبانتظار الأخ الصديق من عمله مددت يدي من دون استئذان إلى مكتبه ساحباً كتاباً أنيقاً سميكاً.. يا للمفاجأة:.. ما هذا الكتاب يا أستاذ عبد الله؟ هذه صورة سعيد حورانية؟! الطفل الكبير.. هكذا كنت أسميه دائماً.. فأنا من المعجبين بقصصه من زمن بعيد.. واحد من المعجبين.

 

 في عام 1989 توسطت لديه  أخي سعيد: لم يحتفل أحد في سورية بمرور مئتي عام على الثورة الفرنسية هذه الثورة المجيدة، التي يبدأ المؤرخون الأوربيون بتاريخ قيامها بالدخول في التاريخ المعاصر contemporaine، أي تاريخ انتصار البورجوازية ثم الرأسمالية.. ثم الإمبريالية.

أي بدء سيطرة الطبقات الحاكمة الأوربية على العالم واستعمار شعوبه واحتلال أراضيه. وفي الوقت نفسه بدءصراع القوى الأوربية الخيرة والإنسانية مع هذه الإمبريالية وفضحها تمهيداً للقضاء عليها. وكان أن توسط لي مشكوراً وقمت بإلقاء هذه المحاضرة.

مرة ثانية طلب مني أن ألتقي، أنا والأستاذ المؤرخ برهان دلّو مع مؤرخين سوفييتيين لتبادل وجهات النظر في تاريخ اليقظة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان لقاء مثمراً.. نقلنا إلى هذين المؤرخين بعض وجهات نظرنا حول قضية التحرر العربية.

في إحدى الزيارات تجرأتُ على الخوض في إحدى خصوصياته.. لأنها جزء من خصوصياتنا.. خصوصيات الحركة الأدبية في سورية العربية المكافحة.. الصامدة في وجه النظام الإمبريالي العالمي.

 أستاذ سعيد.. لا تؤاخذني.. أريد أن أسألك سؤالاً شخصياً.. أنت تعرف أنني قارئ نهم، قارئ معجب بأدبك.. لقد قرأت كل كتاب القصص القصيرة العرب والأجانب.

ترجمات كاتبي القصة الأوربيين، على جمالها، تنقل إليك أفكار قصصهم.. لا نكهة أو طعم لغتهم. اقرأ موباسان أو تشيخوف أو سالتيكوف شدرين مثلاً.. تستطيع أن تفهم ما يقصدون إليه، ولكنك لا تعرف (نكهة) اللغة التي يتحدثون بها.. لكل لغة (نكهتها) الخاصة التي لا يمكن ترجمتها.. ولكنني لم أجد أحداً من كتاب القصة القصيرة العرب يجاريك في نقل (نكهة) اللغة العربية.. لأقل على وجه التحديد (نكهة) اللهجة الشامية الدمشقية.

أسلوبك طريف.. لغته البسيطة.. واقعيته.. نكهته الدمشقية.. لأقل ببعض المبالغة.. نكهة حي الميدان.. أنت تكتب بعفوية وصدق من صميم قلبك.

هذه (النكهة) الحلبية، نكهة الريف الإدلبي.. ربما (نكهة) كفرتخاريم، تراها أيضاً عند حسيب كيالي.. لكن قصصه أكثر سخرية وإبهاجاً ومرحاً من قصصك.

أستاذ سعيد لم أقرأ لك منذ وقت طويل.. لمَ انقطعت عن الكتابة؟ أؤكد لك أن الأمر لا يخصك وحدك.. إن قصصك تسجيل حي  تاريخي  لواقع حياة الشعب السوري.. لحياتنا.. سيتعرف الناس بعد وقت طويل على واقع حياتنا حين يقرؤون قصصك.. كما نعرف واقع حياة الناس في القرن العاشر من خلال ما كتبه المعري، وما نظمه المتنبي.. مثلما تعرف الآن حياة الشعب الروسي في القرن التاسع عشر مما كتبه تولستوي، أو حياة الشعب الأمريكي مما كتبه جاك لندن أو مارك توين.

 يبتسم سعيد.. ولا يرد على ثرثراتي.. هو صموت.. ولكنه دائم الابتسام ابتسامته تخفي سراً لا يريد أن يكشف عنه.. وكأنه يقول لي: روح.. اكتشف ذلك بنفسك.

لم أعرف السر في انقطاعه عن الكتابة.. ذلك أنني في ذلك الوقت لم أكن أعرف شيئاً عن حياته الشخصية قبل أن أقرأ عنها في كتاب مؤلفاته الكاملة هذا الذي أكتب عنه. عن سعيد  من خلال ما أوحته لي إعادة قراءته.

كنت واحداً من معارفه فحسب.. واحداً من المعجبين بأدبه.. ولم أكن صديقه.

وكنت أتساءل دائماً: لمَ توقَّف سعيد عن الكتابة؟ هل نضب زيت سراجه؟

لا أظن ذلك.. لو تابع الكتابة لزاد في غنى الأدب العربي المكافح.. الإنساني..

 لم أستطع أبداً أن أجره إلى الحديث.. أي حديث.. لقاءاتنا العابرة هي مجرد مجاملات عادية، لأعترف مرة ثانية: لم أكن صديقه المقرب.. كنت مجرد زميل له.. مجرد معجب.. وكنت أبرر صمته بأنه ناشئ عن هذه المعرفة العابرة.

 حين سمعت نبأ وفاته حزنت.. خسارة للوطن.. خسارة للأدب العربي.

 وهأنذا أعيد قراءة قصصه التي كنت قد أدمنت على قراءتها منذ أكثر من أربعين عاماً. هذه قراءتي للمرة الرابعة لقصة: عريظة استرحام.. ولقصته: سنتان وتحترق الغابة، ولقصة حمد ذياب.

مرة أخرى.. حين كنت أريد أن أحزن أو أن أتذكر الماضي، أتناول المجموعة من مكتبتي لأعيد قراءة بعض قصصها. ولأقبل صورة سعيد مرة أو مرتين، ولأضع الكتاب فوق رأسي، كالعادة..

 آه لهذا الوطن الذي أحببناه، مَنْ خانه، من عذبه، من أذله، من حطم رؤى شبابه، ومحا أحلامهم؟!

 أحاول التوقف عن قراءة قصص المجموعة الكاملة الواحدة بعد الأخرى.. كل قصة من قصص المجموعة.. تشدك وتدفعك إلى الإيغال في قراءة القصة التالية.

 أكتشفُ.. أنني إذا أزلت عنها التجميلات الأدبية (الرتوش) أنها قصة حياته.. التي عاشها.. وحياتنا.

اليوم عرفت السر.. اليوم في حديثي مع الأخ عبد الله أعتقد أنني ربما فهمت سر انقطاعه عن الكتابة.. سر انزوائه.. سر ابتسامته الطفولية العنيدة.. التي تقول لك بأدب: لا أريد أن أتحدث.. لقد سئمت!

كان سعيد معذباً كالكثيرين من أبناء جيله.. كان مجروحاً.. كانت أحلامه مدمرة كأحلامنا جميعاً.. ليت من دمروا هذه الأحلام كانوا أعداءنا الإمبرياليين والصهاينة وأجراءهم، أعداء شعوبهم المتحالفين مع الإمبريالية والصهيونية.

الفاجعة كانت تكمن في أن من دمرونا.. من دمروا أرواحنا كانوا من رفاق السلاح.. كل ما آمنا به وحاربنا من أجله معاً. انتحلوه واحتكروه وظنوا أنهم الجديرون برعايته وبحمايته وحدهم.. وبأساليبهم.. آه ما أشد مرارة ظلم ذوي القربى! الأشد مرارة أنهم حولوا مجموعة (صغيرة) من خيرة ضباط جيشنا الذين كشفوا مؤامرات الصهاينة وأسيادهم منذ عام 1948 حتى عام 1958 إلى جلادين.. حين كنت في آخر سنة من سنوات الدراسة في دار المعلمين الابتدائية عام 1947 كنا طلاباً ليليين مع مجموعة من أبناء الريف السوري  تعرفت، عرضاً، مع زملائنا (القلمونيين) على أحلى شاب من شباب دير عطية (؟) عبد الوهاب الخطيب، وكان من طلاب الصف الثامن الإعدادي في إعدادية ابن خلدون لا أدري كيف تحول إلى جلاد، ولماذا حمل كل هذا الحقد على الشباب الطليعي في ذلك الوقت! ومثله تحول آخرون، لا أريد أن أعدد أسماءهم، لم يدفعهم الحقد الطبقي الذي عرفته الدول الرأسمالية في تعاملها مع خصومها أبداً.. كانوا شباباً وطنيين.. قوميين عروبيين.. أبناء شعب مثلنا تماماً.. لماذا كانوا قساة إلى هذا الحد؟ لماذا؟ لماذا؟

حدثني الأستاذ عبد الله عن سعيد حورانية حديثاً أظن أنه يلقي الضوء على ما كنت أنتظر الإجابة عنه.. عن اختفائه وراء تلك الابتسامة الطفولية الرائعة التي كانت تخفي حزناً دفيناً يعرفه من عانى ما عاناه سعيد ورفاق سعيد..

حين اعتقل سعيد مع رفاقه من الأدباء والكتاب والمفكرين، تم التركيز عليه وعلى أمثاله من المثقفين الكبار من حملة الفكر الديموقراطي التقدمي الذي كان يخيف الإمبرياليين (وأصدقاءهم) الطبقيين الذين كانوا يخافون من شعوبهم.. لتحطيم إراداتهم.. لتحطيم (أرواحهم). وكان قد اتفق مع صديقه الحميم (…) على ألا  يخضعا للضغوط والإغراءات مهما كان الثمن.. وصمد الاثنان فترة طويلة.. وفي إحدى المرات اعترف له هذا الصديق، لأسباب لا نعرفها ولا يعرفها إلا هذا الصديق ويستطيع أن يبررها، اعترف له بأنه ساير الجلادين (ووقّع) صك براءة.. من أفكاره ومن قناعاته ولم يتمكن من الصمود.. كانوا في سجن المزة يقولون عمن (وقّع).. بأن (سلح) على سيقانه، وسقط من قائمة الأبطال الرومنسيين.. وأنا كنت واحداً من السالحين، ولي أسبابي.

قال لي الأستاذ عبد الله إن سعيداً حين سمع هذا الكلام أخذ يبكي كالأطفال.. انهار حلمه الرومنسي هو الآخر.. ووقّع.. وخرج من السجن ليبقى في سجن روحه الدائم..

كنت أعرف هذا من زمن طويل، ولكنني حين ذكر الموضوع في قصته المهجع الرابع كنت أظن أنه يتحدث عن (سالح) آخر.. عن رفيق آخر، ولم أكن أعرف أن المحامي هو سعيد نفسه. إليكم كيف يروي سعيد حورانية الموضوع في تلك القصة المحزنة:

وتساءل المحامي:

 أين الأستاذ سامي؟ تأخر كثيراً.

فوجم محمد صالح قليلاً، ثم قال بصوت منخفض:

 لقد خرج من السجن.

وارتفعت الأصوات دهشة.

 خرج؟

وركض سليمان نحو محمد صالح.

 ماذا تقول؟

لقد وقع على ما قدموه إليه ووعد بالمساعدة، سمعته يطلب من الحارس إخراجه فوراً دون أن يأتي لأخذ (أغراضه)، لقد كان يتحاشى النظر إلى عيون رفاقه.

ونظر المعتقلون بعضهم إلى بعض بصمت، لقد هوت ورقة أخرى من أوراق الشجرة الضخمة، ورقة أخرى تصفرُّ وتسقط أمام العاصفة.

وارتمى المحامي متهالكاً على الأرض كمن أصابته لكمة قاضية، لقد كان سامي صديقه الشخصي المحبب، ثم قفز وصار يمشي في الميدان (بهو القاووش) بعصبية

 اللعنة.. اللعنة على كل هذا..

وقال ميشيل بسخط:

 هروا… هروا.. يارفاق الطريق.. ترحموا عليه.. مات.

لم يرد في نص القصة أنه حين سمع هذا الكلام أخذ يبكي كالأطفال.

كان الأخ عبد الله شاهداً.. فالقصة لم تجر في المهج الرابع بل جرت في وكر الجلادين في (الطلياني). في (المسلخ حيث كانوا يعذبون السجناء في الطلياني) حسب تعبيره.

آه.. آه.. كم تركت تلك الأيام من مرارة في نفوس أولئك الشبان أنبل وأصفى من كان في هذا الوطن في ذلك الوقت.. يذلون ويهانون ممن؟ من رفاق الدرب!

ولماذا يعذبون؟ هل حملوا السلاح؟ هل عارضوا؟!

عذبوا وأهينوا لسبب واحد (حتى لا يتدخلوا بالسياسة).

بعد أن قرأت الحوار الممتع الذي أجراه أدبيان كبيران من محبي سعيد حورانية أو من تلاميذه في حرفة الكتابة (؟): حسن م. يوسف ومحمود عبد الواحد، والذي جعله الأديب الكبير محمد كامل الخطيب مقدمة لكتاب الأعمال القصصية الكاملة (أظن الجزء الأول لأن هذه المجموعة لم تضم كل أعماله).

فهمت أكثر أسباب عزوفه عن الكتابة.. ولكن هذا لم يشف غليلي ولا أراه يفسر تفسيراً كاملاً أسباب هذه الظروف.. وأنا لي رأي آخر لا أظنه يضر أحداً إذا طرحته على القراء.

سعيد يذكرني بنشأة الحركة الرهبانية المسيحية في فترة الصراع العلني الذي أعقب الاعتراف بالمسيحية من قبل قسطنطين الكبير (313 م) وحولها من دين الجماهير الفقيرة المستضعفة إلى دين الدولة ودين الطبقة الحاكمة.. فترة الصراع بين ديانة (الروح) و(الإنسان) و(الأمل) إلى ديانة الدولة المبررة للظلم.

كثيرون من أولئك الناس البرآء.. المؤمنين بالإنسان، بالعدل (بالروح) اكتشفوا عبثية ما آمنوا به.. عبثية المشاركة (باللعبة)، فآثروا الانزواء وانسحبوا من الحياة.. من المجتمع إلى الصحراء أو إلى الجبال.

سعيد يذكرني بجان جاك روسو (1712  1778م)، بعد أن كتب روائعه الفلسفية والأدبية: الاعترافات والحوارات وأحلام جوال منفرد، والتي نشرت بعد موته… روسو هذا حين اكتشف هو أيضاً (عبثية) ما آمن به فآثر الانسحاب (ظللت عاقلاً إلى الأربعين.. ثم تناولت القلم، وهأنذا أضعه قبل أن أبلغ الخمسين، وأنا ألعن في كل يوم من أيام حياتي ذلك اليوم الذي دفعني فيه غروري الأحمق إلى تناوله.. لقد طلقت حرفة الكاتب إلى الأبد.. ولست أعرف حظاً أسعد من أن يكون الإنسان مجهولاً إلا من أصدقائه..)

وفي تاريخ الفكر العالمي، وفي تاريخ الفكر العربي الإسلامي أيضاً، كثير من أولئك الحالمين.. المتوحدين.. المؤمنين بالإنسان من شعراء وأدباء ومتصوفة أحرقوا كتاباتهم بأنفسهم..

سعيد، الذي يعترف بأنه كان عدمياً.. نهلستياً.. لم يكن يحب السياسة، والسياسة قفص ولكنه دخل إليها من باب حبه (للإنسان)، والفنان الموهوب مثله لايمكن سجنه في قفص، ولقد عرف هذا حين أحرقوا كتاباته أمام عينيه.

وسعيد مثل روسو عرف ما عرفه روسو قبله بوقت طويل: كل ما تمسه يد الإنسان/ المجتمع يصبح خراباً، فآثر الهروب.. لمن أكتب؟ وهل يستحق هؤلاء الناس أن أكتب لهم؟

إلا أنه، ورغماً عن أنفه، ترك بصمات (روحه) في قصصه، وأصبح جزءاً من أيديولوجيا المستضعفين في الأرض.

العدد 1140 - 22/01/2025