عتبات الاستشراف

قبل الدخول في عوالم الدراسات الاستشرافية علينا أن نحدد الفضاءات الدلالية لهذه المفردة، فهي تحمل معانيَ مختلفة باختلاف الأزمنة والعصور، فالبعض يفهم منها القدرة على الكشف المعتمد على ملكة الحدس والتخمين، ومن أجدر من الشعراء بهذه الإمكانية، فقد كانوا بالأمس القريب أفضل من تنبّأ بمصائر ووقائع قبائلهم، ثم شعوبهم، بما يملكون من مواهب الكشف وحسن الاستبصار، مما خولهم مكانة الريادة بين شعوبهم. وكذلك يفعل الأدباء والمفكرون والفلاسفة، ولكن بخلاف الشعراء يعتمدون أكثر على منجزات العلم وتراكم المعارف، فكم من النظريات والاجتهادات كشفها الأدباء والمفكرون قبل أن يصل العلم إليها.

أما دلالة الاستشراف اليوم، فتبنى على أساس متين من دراسة الواقع الموضوعي بطبقاته المتراكمة، دراسة علمية دقيقة، تقوم على الحفر والتقصي والمقارنة والتحليل والاستنتاج وصولاً إلى ما يمكن أن يحمله الغد، لأن الذي يحمله المستقبل يؤسس على بُنى الراهن، والراهن يتكون من الماضي، في سلسلة تفاعلاته مع الحاضر للانتقال إلى احتمالات المستقبل.

إن فهم هذه العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل، يستدعي التحديد الدقيق للاحتياجات الملموسة، سواء أكانت جزئية أم كلية. فالتحديات التي تطرحها الحياة أمامنا، كبيرة جداً، وشديدة التعقيد والتداخل، ولا بد لها من مسبار علمي منهجي يحدد تراتبية الأوّليات، وهذا يقتضي منهجاً علمياً وأدوات معرفية، تثمر مجمل ما قدمته العصور من تراكم معرفي، وبشكل خاص العصور الحديثة، بكل ما أنجزته من ثورات في المعلومات والاتصالات والتقانة.

إذا استطعنا تحديد من نحن وما نريد، وما هي المكانة التي نطمح إلى شغلها في العالم، فعلينا أن نشرع في تأسيس أبنية متينة تستجيب لأسئلة الحاضر وتؤسس لاستحقاقات المستقبل. والمجال هنا رحب وفسيح، يبدأ من مكونات الشخصية (مسألة الهوية) وينفتح إلى حدود مجاراة إنجازات الشعوب المتقدمة في حقول المعرفة والعلم.

الاستشراف في هذا المعنى لا يمكن إلا أن يُشيَّد على أساس من العقلانية والموضوعية والاستخدام الأمثل لكل منجز معرفي بغض النظر عن مصدره، فالعلم والمعرفة لا هوية لهما. إذا أخذنا بالحسبان انفتاح المكان واختصار الزمان والجوهر الإنساني للمعرفة والثقافة.

لكن هل نمتلك الآن دراسات وأبحاثاً استشرافية؟ بمعنى آخر، هل لدينا استراتيجيات بعيدة المدى تلبي احتياجات شعبنا وتطلعاته، لنصل إلى ردم الهوة المعرفية بين ما يسمى الدول المخلّفة والدول المتقدمة، أو مايشاع من مفاهيم دول الشمال والجنوب، والمركز والأطراف؟

في حدود معرفتنا أننا ما زلنا في ممارستنا وطرائق تفكيرنا نميل إلى سلوك رد الفعل، فنحن نعالج المشاكل بعد وقوعها. بهذا المعنى لا نمتلك دراسات علمية دقيقة، ومنهجية، تقوم على أساس التقدم الحاصل في علوم الإحصاء والاستطلاع والمقارنة والموازنة، وصولاً إلى ما نبتغيه. والمسألة ببساطة تتحدد بتقييمنا لأنفسنا وبمكانتنا في التاريخ وتطور عملياته المعقدة، وبمقدار ما نساهم في بناء الحضارة الإنسانية. فإذا أردنا الدخول في العصر بشكل جدي، لا بد من إعادة ما سرق منا من مساهمات علمية ومعرفية في عصورنا الذهبية، وعليه لا بد من الانفتاح دون خوف أو تردد على مجمل ثقافات العالم المتقدم وإنجازاته، متحررين من عقدتين: عقدة الشعور بالنقص أمام الغرب، وعقدة الاستعلاء والاحتفاء المبالغ فيه بمنجزات الماضي. وهما تمظهر لحقيقة النقص. فإذا توفرت الظروف المناسبة والإرادة الحازمة فالإمكانات والمهارات والقدرات متوفرة، مما يمكننا من تأسيس علوم استشرافية تستطيع إلى حد ما التنبؤ بمسارات المستقبل، مع علمنا المسبق بأن خط الزمن لا يسير باتجاه واحد، والتنبؤ محفوف أيضاً بإمكانات التحول والتغير والارتداد أحياناً، وإن وعي هذه العملية وإدراكها علمياً يجنبنا الوقوع في كثير من المخاطر.

هذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها أفراد، مهما أوتوا من قوة ومهارة ومعرفة، إنها تحتاج إلى عمل مؤسساتي تنهض به الدولة بتضافر جهود وزاراتها ومؤسساتها، إضافة إلى ما يمكن أن تقدمه القوى المدنية من جهود تصب في الاتجاه نفسه. فكلما كانت الرؤى مختلفة، والمواقف متنوعة، اغتنت الأبحاث واقتربنا من إمكان معرفة ما يحمله المستقبل في عالم شديد الانفتاح، مغرق في التداخل والتعقيد، على جميع الأصعدة العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

العدد 1140 - 22/01/2025