عن النقد والتلقي
من نافل القول أن الخطاب النقدي في سياق ممارسته وفعالياته الإجرائية، يستهدف غير قارئ يتلقى النص بمستوياته وبمرجعياته، بل أصبح من القارّ والمؤكد أن تعدد القرّاء هو إغناء للنص الإبداعي، والإشكالية هنا كيف نحدد مفهوم الآخر في النقد، وبمعنى آخر الآخر في التلقي، لطالما أن أطروحة (موت المؤلف) التي جهر بها الناقد الفرنسي رولاند بارت في كتابه اللامع (نقد وحقيقة)، قد أعلنت ولادة القارئ، وهذا القارئ الذي رأيناه عند الروائي والسيميائي أمبرتو إيكو بأنه ذو مستويات متعددة، منها القارئ المثالي، والقارئ العمومي، والقارئ المفترض، وسوى ذلك من مستويات نذهب من خلالها إلى مجاز القارئ وضرورة حضوره ليمثل مستويات التلقي المنتج للنص، والتخصيب الممكن له، وعلى غير مستوى أيضاً لغوي وفكري وجمالي واجتماعي.
إذاً، نحن بصدد انفتاح القارئ على النص وتمظهراته ودلالاته أكثر منه الوقوف عند شروحاته وعنواناته، واستدعاء القارئ هنا هو استدعاء لأزمنة القراءة بمعنى ما، كيف تكون في حيز الإنتاج للنص من جديد، والوقوف على تنوعه خارج جدل تجنيسه وإشكاليات هذا التجنيس، فإن يسأن أحدهم -على سبيل المثال- لمن نكتب؟، ذلك السؤال الضروري والمتغير بتغير اللحظة، ستكون الإجابة عنه مفتوحة كذلك، وبطبيعة الحال لن يكون الجواب كافياً إذا قيل إن الكاتب يكتب لذاته أولاً، بوصفه القارئ الأول أي باستقلاله النسبي عن النص المُبدَعْ. سنتوسل الإجابة بالقول: الكتابة هي للزمن العابر وللذائقة الجمعية، وهنا يحضرنا أن نقول كم شاعراً كان مع المتنبي، لكن صوت المتنبي وقلة معه من وصلتنا لنُعيد معه مدونة الشعر العربي، وليس بوصف المتنبي أعلى الأصوات، بل لأنه مخترق لطبقات الأزمنة ليصل، ومازال التأويل قادراً على أن يذهب في قصائده مسائلاً إياها عن القيمة والحضور. وإذا أردنا أن نضيف تساؤلاً جديداً سيتجاوز ظاهرة الموات، كأن يقال بموت القارئ تلك الظاهرة الملتبسة حقاً، فيمكن لنا أن نسائل النصوص الإبداعية واستراتيجيات خطابها، كم تلبث في الراهن؟ أم أنها تتجاوز بمعنى الزمن لحظتها، لتأتي من المستقبل؟ والكتابة في هذا الحيز ليس بوصفها تدويناً للحظة، بقدر ما هي انفتاح دلالي صوب المستقبل الذي يأتي منه ذلك القارئ / المُستَقبِل لإشاراته وبنيته وطرائق تشكيله وقواعد اللعب فيه.
ولطالما نحن بصدد الآخر في خطاب النقد وممارسة النقد، فالآخر هنا هو تكوين معرفي أكثر منه شخصي وزمني محدد، ليكتمل القول بزمن القراءة المخترق لما هو قار وسائد، أي بتبدل مرجعيات القراءة وأنساقها، وفي ذلك يكمن المعنى اللانهائي من أطروحة بارت، لأن النقد بوصفه كائناً معرفياً من فعالياته أن يكتشف ويكشف ويضيف ويغاير، بحثاً عن القيمة المتحققة، لا ركوناً لقيمة عابرة، سيظل في الضرورة المعرفية خارج التوصيف والقراءة المنجزة.
ففي أمسياتنا النقدية المتطلبة لآفاق حوارية أكثر جدية، لابد من إقصاء التماثل بحثاً عن الاختلاف، وجماليات الاختلاف الضرورية، التي من شأنها أن تنجز وعياً بالنقد كخطاب لا يقل أهمية عن الإبداع، وشراكة معه لإنجاز الأفعال الثقافية التي تتكامل بصيرورات المشهد الثقافي برمته، فهي أجزاؤه المنتظرَة والمنشودة، لا حفاوة إذاً، بل حوار يعيد للتلقي قيمته ويعيد حضور القارئ، أو استدعاءه الممكن، لأن القارئ اليوم وهو يعيد تشكيل النص بذائقته، يسهم في بناء النص واكتشافه على نحو مُبدَع، ذلك أن حضور هذا القارئ بدءاً من الناقد وانتهاءً بالذائقة العامة/ الجمعية، هو في حيز الضرورة المعرفية والأخلاقية، أكثر منه في حيز الاستقبال العابر المحتفي بالنص وحسب، ذلك ما تتوسله الندوات النقدية المحايثة للمبدع والقارئ في آن معاً، بوصفهما يشكلان الأضلاع الذهبية في مثلث الإبداع.