(إذا كنت تريد السلام.. فاستعِدّ للحرب!)

د. نهلة الخطيب:

الغرب بسط نفوذه على العالم في بداية القرن الخامس عشر، وبدأ هذا النفوذ يمتد حتى بداية القرن العشرين، وأول دولة من الشرق واجهت هذا النفوذ كانت اليابان، التي كانت منغلقة كلياً على نفسها، فقرّرت في لحظة تاريخية أن تنفتح على العالم، وتلحق ورقة التحديث، وتحولت في بضع سنوات إلى دولة متقدمة، تمكنت من الانتصار على روسيا القيصرية عام 1905، فكان ذلك حدثاً مفصلياً، وبالذات للعالم الشرقي، كل الشرق بدأ يتطور انطلاقاً من هذا الحدث، بدأت ثورات ضد الإمبراطورية العثمانية، وثورة ضد شاه ايران، والثورة الصينية ضد الإمبراطور الصيني، فكانت اليابان هي التحدي الأول للغرب.

ثم جاء التحدي الروسي بإعلان قيام الاتحاد السوفييتي، الذي يمثل عالماً جديداً يُرفض فيه استغلال الانسان للإنسان، واقتصاداً مختلفاً عن الاقتصاد الرأسمالي، فكان تحدياً هائلاً للغرب، وحتى السبعينيات كان هناك انطباع بأن هذا التحدي قد ينتصر، وفجأة في سنوات قليلة انهار التحدي وخرج الغرب منتصراً.

والآن بدأ التحدي الثالث والأكبر، وهو التحدي الصيني الأمريكي، الذي يمثل تحدّياً على صعيد عودة النظام الشيوعي، والطموح الصيني بأن يشغل الموقع الأول كزعيم للتيار الشرقي المناهض للغرب مقابل التكتل الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، سياسة الغرب التي تستفز مبدأ الصين الواحدة، (والمفترض أنها معترفة به)، والقلق الأمريكي من صعود الصين كقوة عظمى سياسية واقتصادية وعسكرية، تنذر بمواجهة، فهل هذه المواجهة حتمية؟؟

وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس أعلن انتقال بلاده (من عالم ما بعد الحرب إلى عالم ما قبل الحرب الجديدة)، وأنه في السنوات الخمس المقبلة قد تكون هناك حروبٌ تشمل دولاً استبدادية، الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران. في الوقت نفسه صرح وزير الدفاع الألماني قائلاً: (علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن بوتين قد يهاجم إحدى دول الناتو خلال خمس سنوات)، ووفقاً لوثائق من البنتاغون فإن أمريكا تعتزم نشر أسلحة نووية في بريطانيا لأول مرة منذ 15عاماً، مع تزايد المخاوف بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة مع روسيا، وجزء من مبادرة الناتو لتطوير المواقع النووية رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، بعد أن أخفق الغرب وأمريكا في تحقيق الردع، والحصار بالعقوبات المروعة، أعاد تشغيل المصانع بأقصى قوتها، وأعاد استثمار الحقول بمنتجاتها الاستراتيجية دون أن يتحقق الرهان الأمريكي بتدمير الاقتصاد الروسي والإطاحة ببوتين، وعشية الولاية الخامسة لبوتين الذي يدرك مدى كراهية العالم للغرب، أكد على أهداف الحرب، ربما تكون جزءاً من استراتيجية تفاوضية، أو تعبيراً عن الموقف الحقيقي للقيادة الروسية.

انتهت الحرب الباردة الأولى في التسعينيات، والمفروض بناء نظام عالمي جديد، ولكننا فشلنا في ذلك، ويتحمل ذلك الدول الكبرى، بريجنسكي عقّب على كلام بوش الأب (الآن نظام عالمي جديد، إثر سقوط الاتحاد السوفييتي)، بالقول: (إنها الفوضى الخلاقة الجديدة والتخلي عن سياسات الاستقطاب وصراعاته)، ولكن عودة الحرب إلى أوربا مع الحرب الأوكرانية، تلته الحرب في غزة، والتوترات المتزايدة حول بحر الصين الجنوبي، فصلٌ جديد من الصراع المستمر، وقد يشكل نقطة تحول خطيرة، حرب باردة جديدة يدخل فيها العالم، وكأنه في طريقه إلى صدام دولي قد يشمل عدة نطاقات مفتوحة.

وبالرغم من أن الصراع العربي الإسرائيلي الذي تخطى الحروب الباردة، بدأ قبلها ويستمر، له مفهومه الخاص، ولا يخضع للتوازنات الدولية، إلا أن التطابق بين خريطة المواقف بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وخريطة الانقسام الدولي الكبير تجعل من الصراع في غزة أحد تجليات الصراع والانقسام الدولي الراهن، وتحدّياً أخلاقياً وسياسياً للغرب بما يجعل من هذا الصراع عاملاً يسهم في تدهور مكانة الغرب وأمريكا في العالم.

العالم عاجز عن ضبط الأزمات ووضع جسور بين المتصارعين، وليس بوسع أمريكا إلا أن تتدخل في شؤون الدول، وبالأخص الواقعة على بحر الصين، بهدف كبح جماح الصين وإنشاء تحالف قادر على مقاومتها في المنطقة، وبالتالي فنحن نسير نحو  صدام ممكن بين أمريكا والصين، وكوريا الشمالية القوة النووية، التي تراجعت عن إجراءات لبناء الثقة مع جارتها الجنوبية، وإيران المرشحة لدخول النادي النووي قريباً، وهو تطور سيكون له تداعيات خطيرة مما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، ويمثل التحدي الإيراني لحرية الملاحة في البحر الأحمر تحدّياً خطيراً لمصالح دولية حيوية، وتحدّياً لأمريكا باعتبارها الضامن لحرية الملاحة في بحار العالم، سباق تسلح يتسارع، وصراع اقتصادي، وتكتلات ليس فقط بين أعداء الغرب، بل كذلك يتضمن دولاً تشعر بأن وضعها العالمي يتحسن إذا ضعف الغرب مثل الهند، التي لا تطمح إلى عالم تكون فيه الصين دولة عظمى، وإنما تصبو إلى عالم فيه توازن بين القوى.

بالوقوف على أوجه الشبه بين الأسباب الحقيقية وراء اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، نجد أن هذه الأسباب باتت متوفرة وتنذر بوقوع حرب عالمية ثالثة، بعد الحرب العالمية الثانية أُعيد بناء نظام عالمي جديد، وتأسيس الأمم المتحدة، التي تتحكم اليوم في قراراتها الدول المنتصرة في الحرب، وتحول العالم من التعددية إلى الثنائية، ثم الأحادية، ويوماً بعد يوم تفشل الأمم المتحدة بمهامها في تحقيق السلم والأمن الدوليين، أمريكا التي تستخدم القيم للهيمنة بحاجة إلى تثبيت تموضعها القطبي، ووضع حد لتطلعات الدول الراغبة في مشاركتها قيادة العالم، والنظام العالمي لم يعد يجدي معه الترميم نفعاً، وأصبح بحاجة إلى هدم وإعادة بناء جديدة تتناسب وعملية التحول الدولي.

هذه الحرب لن تحدث بين ليلة وضحاها، ولكنها أصبحت قريبة أكثر من أي وقت مضى، ومن الصعب تفاديها لعدم توفر الثقة بين الدول الكبرى، فنحن في عالم معقد، وأكثر تعقيداً أن تقف على قرن وحيد القرن، السلوك الاستفزازي لأمريكا لا يؤدي إلا إلى صب الزيت على النار، الشعلة متقدة ويمكن أن تتحول في أي لحظة إلى حريق عالمي، يقول أمين معلوف: (العالم يسير كالنائم نحو حرب عالمية)، لأن النائم لا يعي بالأخطار المحدقة به، فهناك أخطار كثيرة بعضها يأتي من المواجهات بين القوى الكبرى، وبعضها يأتي من أخطار التغيرات البيئية والتطورات العلمية التي تقود إلى انزلاق، وليس هناك آليات لضبط هذه الأخطار، (وإذا كنت تريد السلام فاستعدّ للحرب!)، من الأقوال المأثورة في التاريخ.

العدد 1104 - 24/4/2024