ليس للأمّهات الغزّيات عيد اليوم

د. ماهر الشريف:

تحتفل الأمهات في العديد من الدول العربية اليوم بعيدهن.. أما الأمهات الغزيات فقد حرمهن العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع من التمتّع بفرحة هذا العيد وسماع عبارة (كل سنة وأنت سالمة يمّا) من أولادهن وبناتهن.

 

ما أصعب أن تكوني أماً في غزة اليوم!

فرح، امرأة غزّية لها من العمر 27 عاماً، وهي أمٌّ لطفلين وخريجة إدارة أعمال، تعيش منذ أسابيع طويلة، تحت رعب القنابل التي تتساقط على القطاع، وتخاف كل يوم على حياتها وحياة أفراد عائلتها. تتحدث فرح لمراسلة الفرع الفرنسي لمنظمة (كير) الإغاثية الدولية عما يعنيه بصورة ملموسة أن تكون امرأةٌ أمّاً اليوم في غزة.

أنجبت فرح طفلها الثاني في أواخر أيلول (سبتمبر) الفائت؛ (كانت الولادة سهلة، لقد كنت محظوظة بما يكفي لأن ألد في المستشفى، مع كل العلاجات والأدوية التي كنت أحتاجها. كنت أنا وزوجي وابنتي الكبرى سعداء للغاية بالترحيب بالعضو الجديد في عائلتنا، كنا مليئين بالأمل في المستقبل وبالحب فيما بيننا). لكن بعد أسبوعين من الولادة، راحت الظروف المعيشية تزداد سوءاً بصورة كبيرة. (في الأشهر الأربعة الماضية، أنجبت بعض صديقاتي من دون تخدير، حتى في حالات الولادة القيصرية، واضطرت أخريات إلى الولادة في ملاجئ، على أرضيات قذرة وباردة، بمساعدة أمهاتهن أو نساء مسنّات أخريات)، وخصوصاً بعد تدمير العديد من المستشفيات، وافتقاد الأدوية، وانتشار الجوع والمرض. ومع ذلك، تضطر فرح، يوماً بعد يوم، (إلى الظهور بمظهر حسن أمام طفليها حتى لا تقلقهما، لكنها تحارب كل يوم من أجل بقاء عائلتها)، وتقول: (لقد تحوّل شعور الأمومة الرائع إلى شيء أصعب مما كنت أتخيله؛ من الصعب العثور على الطعام، ليس لديّ حفاضات لطفلي، ولا أستطيع غسل ملابس أطفالي، أشعر بالعجز). وهي كانت تعيش مع عائلتها، قبل صدور قرار جيش الاحتلال بإخلاء المناطق الشمالية من القطاع، (في منزلهم المزوّد بجميع وسائل الراحة الحديثة)، لكن العائلة اضطرت (إلى الفرار من العنف وترك كل شيء وراءها)، وصارت تعيش (في منزل صغير في مدينة رفح مع 25 شخصاً آخر، يتشاركون مرحاضاً واحداً). وتنهي فرح حديثها بالقول: (أخشى أن أفقد عائلتي في التفجيرات، إنهم كل شيء بالنسبة لي؛ أمنيتي بسيطة: أريد أن أعيش مع عائلتي وأحبائي في سلام وأمان، مثلك، نريد أن نعيش وأن نحقق أحلامنا، بعيداً عن الموت والحرب).

وتنقل مجلة (الكورييه أنترناسيونال) الفرنسية شهادة إحدى الأمهات الغزيات من مدينة رفح، التي تقول: (أن تكوني أماً في غزة أثناء الحرب، يعني أن تعيشي في رعب ساحق)، إذ عليك مواجهة (الموت وعدم اليقين واليأس والتشريد والنقص)، ولكن عليك أيضاً أن تُبدي (تصميماً على حماية أطفالك من الفوضى والعنف، من خلال التشبث بالاقتناع بأن السلام والاستقرار لا يزالان ممكنين). وتضيف: (أن تكوني أماً في منطقة حرب يعني مواجهة محنٍ جديدة كل يوم، فأنا مثلاً أجد صعوبة في العثور على الضروريات الأساسية، مثل الحفاضات لابنتي البالغة من العمر عامين). إن رفح، مدينتي، (كانت ذات يوم جميلة جداً، لكنها أصبحت الآن مكتظة بـ [مئات الآلاف] من الأشخاص الذين فرّوا هرباً من الخطر)، ولقد حوصرنا (في هذا المحيط الصغير) على أمل أن نهاجم بعضنا بعضاً؛ فالأشخاص اليائسون يسرقون المساعدات الإنسانية، ويخزن التجار الإمدادات، ووصلت الفوضى إلى درجة أنه لا يمكنك السير في الشارع من دون سماع شجار وصراخ، وتكتظ المدينة بالسكان وتنام العائلات على الأرصفة أو في ملاجئ مؤقتة). وتتابع قائلة: (أصبحت تلبية احتياجاتنا الأساسية صعبة للغاية؛ يحاول جميع السكان ببساطة البقاء على قيد الحياة باستخدام ما يمكنهم العثور عليه بأفضل ما يمكنهم).

 

ما أصعب الولادة اليوم في غزة!

في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، نشرت الصحافية الكندية في أوتاوا، ليز دونيس، تحقيقاً في جريدة (لودوفوار) عن صعوبات الولادة اليوم في غزة، في ظل الحرب التي تشنها إسرائيل، فتنقل عن إسراء المقداد، النازحة إلى رفح، قولها إنها (غير قادرة على الاغتسال بعد أربعة أيام من ولادة طفلها الثاني)، وتضيف: (أنا لا أتوقع أي شيء، ولا أعرف ما إذا كنت سأظل على قيد الحياة غداً). وتقيم إسراء، البالغة من العمر 33 عاماً، حالياً في منزل أجدادها في رفح، حيث يعيش نحو ستين شخصاً، معظمهم من النساء والأطفال، الذين يمكن سماع صوتهم بصوت عالٍ على الطرف الآخر من خط الهاتف، ويتقاسمون القليل من الماء والطعام الذي لديهم). وتضيف إسراء أنها (لم تتلقَّ أيّ مساعدة من أجل ولادة طفلها)، ويقاطعها كل دقيقتين انقطاع في خط الهاتف. وهي، التي كانت تخشى عدم القدرة على الوصول إلى المستشفى، تمكنت أخيراً من الذهاب إلى هناك، لكن (لم تكن هناك مناشف، وكانت بعض الأجهزة [الطبية] مفقودة)، والأهم من ذلك، كان هناك (انقطاع للمياه)؛ باختصار، (ذهبت، وأنجبت، وانتظرت أربع ساعات حتى يتم فحصي، ثم عدت إلى المنزل). وتشرح إسراء، التي تشعر بالقلق من عدم قدرتها على تلقيح ابنتها الصغيرة ماريا في الوقت المناسب، قائلة: (أخبرنا الجميع أنه يتعين علينا الانتظار حتى انتهاء الهجوم). ومع ذلك، فهي لا تعتقد أن الرحيل هو (خيار) بالنسبة إليها، وحتى لو أتيحت لها الفرصة، فإنها تقول إنها تفضل البقاء مع عائلتها، (لن يكون من العدل أن أغادر بينما يعاني أفراد عائلتي هنا، سأعتبر هذا خيانة). لكنها، حتى لو لم تكن تخطط للمغادرة، اضطرت إسراء بالفعل إلى تغيير مكان إقامتها خمس مرات منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فقد كانت في شمال القطاع، في غزة، عندما بدأت الحرب. (كنت أطبخ مع ابنتي صوفيا، البالغة من العمر ثلاث سنوات، بيد أن مكالمة من أحد الجيران أشارت إلى استهداف مبنى قريب أنهت كل شيء.. وأخذنا الأشياء التي أعددتها تحسباً لحدوث شيء ما، وغادرنا). التهديد نفسه سيدفعها مرة أخرى، مع زوجها وابنتها، إلى مغادرة منزل والديها الذي لجؤوا إليه، ثم إلى مغادرة منزل شقيقها، وتقول: (نحن محظوظون لأن لدينا عدة منازل). لم تكن هذه الرحلات المتعددة خالية من المخاطر، كما تعترف، مشيرة إلى (أن العديد من الفلسطينيين قتلوا في سياراتهم أثناء محاولتهم اللجوء إلى الجنوب).

 

20 ألف طفل ولدوا (في الجحيم) منذ بدء الهجوم الإسرائيلي

هذا ما ذكرته المتحدثة باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، تيس إنجرام، في مؤتمر صحفي عقدته في جنيف في 19 كانون الثاني (يناير) 2024، وقالت خلاله: (إن هذا يمثل طفلاً يولد كل 10 دقائق في هذا الصراع الرهيب). وبعد عودتها من غزة، روت العديد من الحالات التي تشهد على الوضع الكابوسي هناك بالنسبة للنساء الحوامل والأمهات المرضعات وأطفالهن الرضع. إذ أخبرتها ممرضة أنها (أجرت عمليات قيصرية طارئة لستّ نساء توفين في الأسابيع الثمانية الماضية، ولم تتمكن من إحصاء حالات الإجهاض بسبب الهواء الفاسد والدخان الناتج عن القصف). وروت أيضاً حالة أمل، وهي امرأة فلسطينية حامل في شهرها السادس، دُفنت تحت الأنقاض أثناء الهجوم. (إن رؤية الأطفال حديثي الولادة يعانون، في حين أن بعض الأمهات ينزفن، يجب أن يمنعنا من النوم)، تقول غاضبة. ومن بين النساء اللاتي قابلتهن، أخبرتها إيمان (كيف هربت مرعوبة في شوارع غزة التي تعرضت للقصف، وهي حامل في شهرها الثامن، وبعد 46 يوماً من إجراء عملية ولادة قيصرية لها، دخلت المستشفى بسبب عدوى خطيرة وأصبحت أضعف من أن تحمل مولودها الجديد علي بين ذراعيها). ويستقبل المستشفى الإماراتي في رفح الآن الأغلبية العظمى من النساء الحوامل في قطاع غزة، بحسب اليونيسف. لكن الموظفين، المثقلين بالاكتظاظ والموارد المحدودة، (يضطرون إلى إخراج الأمهات من المستشفى بعد ثلاث ساعات من العملية القيصرية). وتبدأ محنة جديدة بعد الولادة، إذ (إن كل شيء مفقود: الغذاء، ومياه الشرب، والرعاية الطبية، والمأوى الملائم)، وهذا يعني أن الأطفال الرضّع (يعانون من معدلات أعلى من سوء التغذية ومشاكل النمو والمضاعفات الصحية الأخرى)، حسبما تشير اليونيسف.

 

الأمهات في غزة يتملكن القوة من أجل أطفالهن

نشرت الصحافية عبير أيوب مقالاً في موقع (ميدل إيست آي) البريطاني تطرقت فيه إلى سعي الأمهات في غزة إلى امتلاك القوة من أجل أطفالهن، فتنقل عن آلاء هاشم، وهي أمٌّ من غزة تبلغ من العمر 30 عاماً، أنها (تمرّ بأصعب أوقاتها كأمّ، إذ إنها في اليوم الأول للحرب، غادرت منزلها المتضرر جزئياً في غزة)، وانتقلت، مع عائلتها، (للإقامة عند صديق لهم في جنوب قطاع غزة، مع أكثر من ثلاثين شخصاً آخر في المنزل نفسه). وأوضحت عبر الهاتف لـ (موقع ميدل إيست آي): (أبذل قصارى جهدي لضمان سلامة طفلَيّ، لقد اتفقنا في المنزل على عدم التحدث عن معلومات أو صور صادمة أمامهما)؛ و(تكذب الأم على طفليها، وتقول لهما إن الهجمات الإسرائيلية لا يمكن أن تلحق بالمدنيين أيّ ضرر)، وتؤكد: (لا أريد أن يشعرا بالرعب المستمر، فهذا ليس جيداً لسلامتهما العقلية). وبينما يعبّر ابنها عن خوفه وحزنه وإحباطه، تبقى ابنتها صامتة، وعندما تسألها آلاء عن حالها، تجيب بأنها (تريد فقط أن تُترك وحدها). لدى آلاء هاشم لباسان فقط لكل طفل من طفليها، وقالت: (أطلب منهما أن يحاولا الحفاظ على نظافة ملابسهما لأطول فترة ممكنة لأنه يتعين عليّ غسلها يدوياً؛ وبما أن الماء مطلوب لاستخدامات أخرى، فإن الاستحمام لم يعد أولوية).

 

(سأحفر الجبال لإطعام طفلي(

هذا ما نقلته الصحافية ستيفاني هيجارتي، في تحقيق نشرته على موقع (البي بي سي) في 14 شباط (فبراير) الفائت، عن الأمّ الغزية أمل، التي قررت الانتقال في رحلة محفوفة بالمخاطر من خانيونس إلى رفح، لتبحث عن حليب لطفلها محمد البالغ من العمر ثلاثة أشهر. قالت لي– تكتب الصحافية- في رسالة صوتية، بقلق ولكن بتصميم: (أنا في طريقي إلى رفح، سأحاول العثور على بعض الحليب، إن شاء الله، سأجد بعضه اليوم). وبعد ساعات قليلة، وصلت رسالة صوتية أخرى، وقالت وهي مذعورة: (تعرضت سيارتنا لهجوم من قبل الدبابات الإسرائيلية ونحن في طريقنا إلى رفح، وأنا الآن عالقة في رفح، لا أعرف ما إذا كانت ستتاح لي الفرصة لرؤية أطفالي مرة أخرى). لساعات، ظلت أمل غير متصلة بالإنترنت، ثم في وقت متأخر من الليل، تم إرسال رسالة، وكانت قد عادت إلى خان يونس).

في صباح يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت أمل (تحتضن في سريرها طفلها نوح البالغ من العمر 18 شهراً عندما أيقظتهما موجةٌ من الانفجارات جاءت عبر جدران منزلهما؛ أمسكت أمل بنوح وركضت من غرفة إلى أخرى). تقول: (لم أكن أعرف إلى أين أذهب لأن الضجيج كان يحيط بنا من كلّ مكان). فبعد أن قامت حركة (حماس) بهجومها على إسرائيل، شنّت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية هجمات انتقامية بعد فترة وجيزة. لكن في خان يونس، جنوب قطاع غزة، (لم يكن لدى أمل أي فكرة عما يحدث، كانت قلقة ومذعورة، وكانت حاملاً في الشهر الثامن وبدأت تنزف بغزارة). كان عليها أن تذهب إلى المستشفى، لكن زوجها كان يعمل في الضفة الغربية وكانت هي وحدها. قالت: (انتظرت السيارة لمدة ثلاث ساعات على الأقل.. كانت الشوارع مليئة بالناس، وكانوا خائفين، ولم يعرفوا ماذا يفعلون أو إلى أين يذهبون، لم يكن في وسعنا إلا سماع أصوات القصف في كل مكان). عندما وصلت أمل إلى المستشفى، (أجريت لها على الفور عملية قيصرية، وولد محمد في الساعة 11 صباحاً في عالم تغيّر بشكل لا يمكن إصلاحه). فعندما كان عمره تسعة أيام، نُقل محمد إلى المستشفى (وهو يعاني من صعوبة في التنفس بعد تعرّض الحيّ الذي يقيمون فيه لهجوم بالغاز). أرضعت أمل محمد لمدة شهر، لكنها وجدت أنها لا تنتج ما يكفي من الحليب؛ تقول: (كنت خائفة ومتوترة طوال الوقت، لم أكن أركّز على أن أتناول الطعام المناسب، لذلك لم يكن لدي أي حليب له، لكنني حاولت). في 2 كانون الأول (ديسمبر) 2023، أُخبرت أمل أن الحي الذي كانوا يقيمون فيه سيتعرض للهجوم، فغادرت مكان إقامتها ليلاً في اتجاه رفح، قبل ساعتين من قصف المكان، (لم أتمكن من أخذ الحليب والحفاضات لأنهم دمروا المبنى بأكمله). ابنها نوح يعاني من مرض الصرع، لكنها لا تستطيع العثور على دواء له في الوقت الحالي. بينما يعاني محمد من حساسية تجاه منتجات الألبان. في نهاية شهر كانون الثاني (يناير)، (أصبحت اتصالاتنا أكثر ندرة- تكتب الصحافية-وكان عليّ (أن أنتظر ثلاثة أيام قبل أن أسمع منها)، قالت لي: (إن ولدَيّ بخير، ولكننا جميعاً خائفون لأن القصف لم يتوقف خلال اليومين الماضيين، ولم يتوقف ليل نهار، ويصعب على نوح أن يتحمل صوت الانفجارات بشكل خاص، لأنه يزيد من نوباته سوءاً، ولم يعد لدينا دواء الصرع الخاص به). لكن محمد لن يعاني من الجوع بعد الآن، إذ عثرت أمل على (أمٍّ في الحي نفسه صارت ترضعه مع طفلها، وتدفع لها أمل ملابس أطفال وقليلاً من المال). وهي تقطن مع طفليها على مساحة من الرمال، (في خيام مصنوعة من الألواح الخشبية والألواح المطاطية، ويعيشون على السلع المعلبة والخبز من الدقيق المتبرع به، إذا تمكنوا من الحصول عليه). أما علي، زوج أمل، (فلا يزال في الضفة الغربية، ولا يستطيع دخول غزة أو إخراج عائلته منها). وتنهي الصحافية تحقيقها، فتكتب: (ذات مساء، أرسلت لي أمل صورة، وهي آخر صورة التقطتها في حياتها قبل الحرب، تم التقاطها ليلة 6 تشرين الأول (أكتوبر)؛ يرقد نوح على السجادة الناعمة، متكئاً على وسادة كبيرة، ويشاهد الرسوم المتحركة على شاشة التلفزيون ويشرب الحليب من الزجاجة، يركل ساقيه في الهواء تحت الوهج الناعم للأضواء المعلقة على جدار غرفة المعيشة)؛ في تلك الليلة، (نام، محتضناً أمه، في عالم بعيد عن الغبار والأوساخ وطائرات من دون طيار التي لا تتوقف في حياتهم الحالية)، وتقول أمل أخيراً: (كما ترون، ليس لدي الكثير من الخيارات هنا؛ لذلك أحاول أن أفعل ما هو ممكن، كل ما علي فعله هو إنقاذ طفلَيّ من هذه الحرب الرهيبة).

 

ما أنني نشأت في غزة، فأنا أعرف معنى الحرب)

هذا ما جاء في رسالة من أمّ في غزة إلى منظمة (كير) الدولية للإغاثة في فرنسا، ورد فيها: (على الرغم من انعدام الأمن والقيود، تمكنت من بناء حياة جميلة لنفسي ولعائلتي في غزة، وذلك بعد أن كنت قد درست علم النفس والتربية وتخرجت من بين الطلاب المتفوقين على صفّي، ووجدت وظيفة جيدة، وتزوجت ولدينا ثلاثة أطفال جميلين: تيم يبلغ من العمر ستة أعوام، وتالا تبلغ أربعة أعوام، وسالي بلغت عامها الأول منذ شهرين). وبعد بدء الحرب، اضطرت وعائلتها إلى مغادرة منزلهم في مدينة غزة، والانتقال للإقامة عند ابن عم زوجها؛ (مكثنا هناك لمدة يومين وكنت أنام جائعة كل ليلة حتى لا يجوع أطفالي، وفي إحدى الليالي، تعرض المنزل الذي كنا نقيم فيه لقصف جوي، مات أحد أحبائنا وأصيب آخرون، لقد كنا محظوظين بالبقاء على قيد الحياة. هربنا إلى خان يونس وبقينا مع أخت زوجي، مكتظين في منزل صغير مكون من غرفتي نوم مع نحو خمسين شخصاً آخر.. مكثنا هناك لمدة 45 يوماً حتى ضربت غارة جوية المنزل المجاور). فجأةً (لم يكن هناك سوى ضجيج، والأرض تهتز، والدخان الأسود والغبار في كل مكان، فحملت ابنتي الصغرى وكان الطفلان الآخران يركضان معي، لم أتمكن من رؤية أي شيء وكان أطفالي خائفين ويصرخون.. وجدنا ملجأ في منزل آخر، كان هناك أكثر من 100 شخص، لن أنسى أبداً أصوات هذا المنزل، كان الجميع يبكون ويصرخون، حداداً على أصدقائهم وعائلاتهم). ومنذ بدء الهدنة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر، (نعيش في ملجئنا الرابع منذ بداية الحرب مع والدتي ونحو ثلاثين شخصاً آخر في منزل في رفح). وتتابع قائلة: (كأمّ، أبذل قصارى جهدي لأكون إيجابية، وأصرف انتباه أطفالي، وأخبرهم بنكاتٍ سخيفة، ينفطر قلبي عندما أرى الضرر الذي سبّبته لهم هذه الحرب، وكيف أن أطفالي، الذين كانوا دائماً مليئين بالحياة والفرح، يحتاجون الآن إلى كل قوتهم ليجرؤوا على مغادرة المنزل؛ أطفالي متحجّرون، وهم في كل دقيقة يسألونني: أمي، متى سنعود إلى المنزل؟ … أول ما يسألني عنه ابني تيم كل صباح عندما يستيقظ: أمي، هل انتهت الحرب؟ هل يمكنني العودة إلى المدرسة؟ أما ابنتي تالا، فهي تغطي أذنيها بيديها الصغيرتين في كل مرة يحدث فيها ضجيج عالٍ، وتقول لي إنها لا تريد أن تموت.. بينما سالي، الطفلة البالغة من العمر سنة واحدة، تبكي أكثر بكثير من ذي قبل، إنها تريد أن تكون قريبة وتعانقني طوال الوقت.. كأمّ وكامرأة وكفلسطينية من غزة، أريد شيئاً واحداً فقط، أريد أن يتوقف العنف).

العدد 1104 - 24/4/2024