هنري كسينجر .. مؤامرات وجرائم.. غيض من فيض

د. نهلة الخطيب:

هنري كسينجر (1923- 2023)، سِجل حافل خلال مراحل حياته السياسية التي شهدت الحرب والسلام، وعند استقالته أصبح من أهم المؤثرين على الإدارة الأمريكية وصياغة الاستراتيجية الأمريكية داخلياً وخارجياً، ومن أهم صناع الدبلوماسية في العالم، يركز في علم السياسة على صانعي القرار أكثر من تركيزه على عمليات صنع القرار، فهو قبل أن يكون سياسياً كان عالم نفس، وهذا ما جعله يتمتع بصداقات واسعة مع شريحة من صناع القرار لفهم القضايا وحلها. توفي بعد أن تخطّى مئة عام بأشهر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وهو اليهودي الذي فر هارباً وعائلته من اضطهاد النازيين في ألمانيا الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938، حصل على الجنسية الأمريكية وخدم في الجيش الأمريكي في شعبة الاستخبارات بألمانيا، أكمل تحصيله العلمي وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد، وأصبح من أهم صناع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية، عمل كمساعد لشؤون الأمن القومي عام 1968، ثم أصبح رئيساً له حتى عام 1975 في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون الذي أعطاه نفوذاً كبيراً وكان كسينجر شديد التأثير عليه، وتسلم بعهده منصب وزير الخارجية عام 1973، استمر في منصبه حتى بعد استقالة نيكسون على أثر فضيحة ووترغيت والتجسس على منافسيه الديمقراطيين، وقدوم جيرالد فورد.

وظل كسينجر حتى وفاته فاعلاً على الساحة السياسية، يجري لقاءات مع قادة العالم كان أخرها مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في تموز الفائت في الصين، يكتب ويحاضر في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية ويتم تدريس نظرياته جنباً الى جنب مع نظريات القوة وتوازن القوى، وكما قال بلينكن “كان له فرصة كتابة التاريخ”. من أهم كتبه النظام العالمي، دبلوماسية على الصين، سنوات التجديد المجلد الختامي لمذكراته، استعادة العالم، والأسلحة النووية والسياسة الخارجية، الذي جادل فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تستخدم الأسلحة النووية التكتيكية على أساس منظم في الحرب لضمان النصر، ويعد كسينجر صاحب النظرية الواقعية والحفاظ على التوازن على حساب المعايير الأخلاقية والقيم “وأن شرعية النظام الدولي لا تتطلب سوى موافقة قوى عظمى والأخلاق لا علاقة لها بالموضوع”.

كانت سياسته غامضة تتسم بملامح رمادية يلعب على تناقضات الخصوم والحلفاء من أجل تحقيق أهدافه الاستراتيجية في صراعات ذات بعد أشمل “الصراع مع الاتحاد السوفييتي ابان الحرب الباردة”، لعب دوراً مهماً في ادارة ملفات دولية حساسة في نزاع الصحراء الغربية بين المغرب الحليف الأمريكي والجزائر الحليف السوفييتي، بعد اعلان اسبانيا الانسحاب منها، وعمل على توطيد العلاقات الأمريكية الصينية في عهد الرئيس ماوتسي تونغ ومهد لزيارة تاريخية لنيكسون للصين عام 1972 لاستبعاد الصين عن المعسكر السوفييتي، عايش الحرب الباردة وعمل على تهدئة التوتر مع الاتحاد السوفياتي، ولعب دوراً مهماً للتوصل إلى اتفاق أمريكي- روسي للحد من التسلح الاستراتيجي وتجنب اندلاع حرب نووية، وتفاوض على خروج الولايات المتحدة من مأزقها في حرب فيتنام، وفاز بجائزة نوبل للسلام 1973، التي أثارت الجدل حول تاريخه الدموي من خلال دعمه لأنظمة استبدادية في تشيلي وتيمور الشرقية، فضلاً عن حرب فيتنام التي أسفرت عن (إبادة جماعية) بسقوط مئات الآلاف من القتلى في قصف كمبوديا، وطالب منتقدوه بمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأخيراً دوره في حياكة معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل أنهت الحرب بين الطرفين، واحتوت مصر ونقلتها من المعسكر السوفييتي إلى المعسكر الأمريكي.

رغم محاولة كسنجر الهروب من جذوره اليهودية ودعم وجهات النظر المعادية للسامية التي ميزت بيئته السياسية، وهو القائل: (لولا حادث ولاتي ربما سأصبح معادياً للسامية)، تصرف بانحياز مطلق ظلإسرائيل وخدمها بكل ما تأتيه من قوة، عندما شن العرب حرب تشرين التحريرية عام 1973، (بعد أسبوعين من تسلمه لمنصبه وزيراً للخارجية الأمريكية/)، كانت مهمته إنقاذ الوجود الإسرائيلي بعد أن فوجئ بالإنجازات الهائلة التي حققها الجيشان السوري والمصري والانهيار الذي كانت تشهده إسرائيل آنذاك، فطلب من السفير الإسرائيلي في واشنطن تجييش اللوبي الصهيوني للضغط على الكونغرس والرئيس نيكسون للموافقة على الدعم العسكري لإسرائيل، فبدأت مخازن الأسلحة ترسل مخزونها الى إسرائيل عبر جسر جوي عسكري أمريكي مباشر لتغيير معادلة الحرب لصالح إسرائيل قبل تحديد موعد جلسة لمجلس الأمن وصدور قرار وقف إطلاق النار، “تماماً كما هو الحال في معركة طوفان الأقصى وكأن التاريخ يعيد نفسه”، كان يريد انتصاراً لإسرائيل يجعلها تفرض شروطها عند المفاوضات لاحقاً ومنع النصر العربي الذي كان ينظر له على أنه نصراً سوفييتياً، وبسبب هذا الجسر الجوي الأمريكي فرض الحظر النفطي العربي بقيادة السعودية على أمريكا وحلفائها الذين يؤيدون إسرائيل، مما أدى الى أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ العالم لأمريكا والدول الغربية، وكادت تنشب حرب عالمية ثالثة بسبب انحياز كسينجر لإسرائيل، ورفضه تعليمات نيكسون بالتنسيق المشترك مع الاتحاد السوفييتي لفرض تسوية بالمنطقة، وبعد أن استدعت موسكو قواتها الجوية والبرمائية والتي تحمل رؤوس نووية مما خلق ما يشبه التوازن العسكري، أجبر كسينجر على وقف إطلاق النار بعد أن عبرت القوات الإسرائيلية قناة السويس، وبدأ كسينجر مفاوضات السلام لإخراج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، تكللت باتفاقية كامب ديفيد عام 1977، بين السادات وكولدا مائيير لتسوية حروب ضد إسرائيل امتدت ربع قرن (1948-1973)، وكانت منعطفاً في تشكيل تحالفات جديدة بين أنظمة عربية حليفة للغرب تربطها علاقات مع إسرائيل تلتها اتفاقيات إبراهام المبنية على ما خطط له كسينجر.

العالم الذي حاول كسينجر صياغته في السبعينيات ينهار فمشاريعه الاستراتيجية الكبرى، كانت الانفتاح على الصين والتهدئة مع روسيا واليوم نشهد صراعاً حاداً بين أمريكا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، وتحقيق اتفاقات مؤقتة وليست دائمة لمجمل الصراع العربي الإسرائيلي وفقاً لسياسته الخطوة بخطوة أخرجت مصر من الصف العربي، وازداد النفوذ الأمريكي بالمنطقة، وأصبحت الولايات الأمريكية هي الراعي الوحيد لمعاهدات السلام في المنطقة، ولم يطالب إسرائيل بتقديم تنازلات تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة لتصاب القضية الفلسطينية بنكسة جديدة، وأينما توجه أمريكا أنظارها تخلق الأزمات، فالوجود الأمريكي قائم على الأزمات، الحرب في أوكرانيا، والفوضى في سورية والعراق، والتوتر في بحر الصين وتايوان، والأوبئة والمجاعات في افريقيا، والاقتصاد العالمي المتأزم، وأخيراً الحرب في غزة التي فرضت واقعاً جديداً أربك المخططات الإسرائيلية السياسية والديموغرافية والاقتصادية، وأثبت عجز المنظومة الدفاعية للجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. فمن يحيي الموتى ويعيد هنري كسنجر للحياة لينقذ إسرائيل وأمريكا من الوحول اللاهوتية التي تغرق بها في غزة؟

العدد 1105 - 01/5/2024