الولايات المتحدة الأمريكية تهزم نفسها

د. نهلة الخطيب: 

في سابقة تاريخية على مسرح السياسة الأمريكية وقبل عام من الانتخابات الرئاسية، عُزل رئيس النواب الأمريكي الجمهوري كيفن مكارثي، هذا ما يعكس طبيعة النظام السياسي الأمريكي القائم على الأزمات وحدة الانقسامات التي يعاني منها الحزب الجمهوري الذي يسيطر على مجلس النواب بهامش ضئيل، وقد صوت مجلس النواب بأغلبية 216 لصالح مذكرة طرحها الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري بقيادة مات غيتس تنص على اعتبار منصب رئيس مجلس النواب شاغراً، على خلفية اقرار مشروع قانون لتمويل الحكومة الفيدرالية الأمريكية لمدة ستة أسابيع لتجنّب الإغلاق الحكومي يحظى بدعم الديمقراطيين، واتُّهم مكارثي بالتفاوض السري على صفقة سرية مع بايدن بشأن تمويل أوكرانيا، وأقر الكونغرس تشريع تمويل مؤقت للحكومة الفيدرالية دون أن يتضمن أي بند للمساعدات الخارجية، وتخطى خططاً لمنح أوكرانيا ستة مليارات دولار أخرى، بعض الجمهوريين يقاتلون من أجل كبح الدعم لأوكرانيا فيما بدا مساومة بين الحزبين لتمرير التمويل دون الدخول في خلافات حول ما يُرصد دعماً لأوكرانيا رغم تأكيد البيت الأبيض أن دعم أوكرانيا هو حماية للحليف الأوربي، الدعم غير المسبوق لمدة سنة ونصف للحرب الدائرة في أوكرانيا كلفت الدخل والاقتصاد الأمريكي أموالاً طائلة ورفعت معدل التضخم، وبدأ الشارع الأمريكي ديمقراطيين وجمهوريين يتذمرون مما يجعل الإدارة الأمريكية في وضع صعب جداً وموقف الرئيس بايدن حرجاً في الفترة القادمة.

صراع أمريكي داخلي وحالة انقسام حاد في الولايات المتحدة الأمريكية ليست فقط بين الجمهوريين والديمقراطيين وانما داخل الحزبيين نفسهما، وهذا يعني أن القاعدة الشعبية منقسمة أيضاً وخاصة داخل الحزب الجمهوري، ولتقصي الخلل في النظام السياسي الأمريكي وجوهر الأزمة السياسة حسب أندرو باسيفتش في كتابه (حدود القوة.. نهاية الاستثنائية الأمريكية)، هناك ثلاثة أبعاد أساسية: فكرية تتناول إيديولوجية الأمن القومي، وتنظيمية تستعرض مؤسسة الأمن القومي، وأخيراً شخصية تعتمد على نوعية الرجال الحكماء المؤثرين في السياسات الخارجية لهذه القوة العظمى التي تقع على عاتقها صياغة الاستراتيجية الكبرى حول تحقيق هيمنة كونية وتشكيل العالم بما يتناسب وضرورات الأمن القومي، التي بلغت ذروتها، ولكن يبدو أن هؤلاء الحكماء الذين هيمنوا على الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة قادوا الولايات المتحدة الى حروب بلا نهاية وتكاليف فاقت التوقعات بكثير.

وجود ترامب بالسياسة الأمريكية ظاهرة جديدة لا تعتمد على سياسته ولا شخصيته ولو كان هناك شخص آخر ارتكب هذه الأخطاء والمخالفات لما كان تمكن من الفوز، ولكن هناك الآن في الحزب الجمهوري توجه شعبوي يميني متطرف، ينظرون الى ترامب كقائد لا يخطئ ويصدقون كل ما يقوله، وهذه مشكلة كبيرة للحزب الجمهوري لأنهم ليسوا الأغلبية ضمن الناخبين ولكنهم على الأغلب سوف يشقون الحزب، هذا الكلام ربما يبني على الإشكالية التي رافقت ولاية ترامب بالأخطاء التي ارتكبها والتي ساعدت في فوز بايدن، وهذا لا يعني أن بايدن خلال فترة حكمه لم يرتكب أخطاء قد تساعد الجمهوريين على الالتفاف حولها، فهل مباراة الإعادة بين جو بايدن ودونالد ترامب محتومة !؟

في معسكر الديمقراطيين إعلان جو بايدن نيته بالترشح تجعل الخيارات محدودة لأن التقاليد داخل الحزب الديمقراطي تقتضي أنه إذا أبدى الرئيس نيته بالترشح بات على الجميع الالتفاف حوله وعادة لا يوجد منافسة في الانتخابات التمهيدية، وأبرز المنافسين لبايدن، في حال لم يترشح، نائبته كمالا هاريس ولكنها لا تحظى بشعبية كبيرة لدى الناخبين، وفرصة بايدن كبيرة للفوز بدورة رئاسية ثانية برغم وجود بعض المعارضين له بسبب تقدمه بالسن وحالته الصحية والذهنية.

في المعسكر الجمهوري لا أحد من المرشحين رغم محاولات البعض اظهار نفسه كحاكم فلوريدا رود ديسانتس يمكنه أن يكسب بسبب دونالد ترامب الذي أعلن عن نيته خوض الانتخابات، مؤكداً ذلك في اليوم الثالث من محاكمة الاحتيال المدني بدعوى أقامها ضده مدعي نيويورك تتهمه بالاحتيال التجاري، بأنه سيعود للرئاسة ويقود المرحلة القادمة وينهي المرحلة المظلمة من تاريخ أمريكا، وأن رفض المحكمة تشكيل هيئة محلفين أمر غير مسبوق مشيراً الى أنه يجب ألّا تُستخدم العدالة كسلاح سياسي، وأن القضية التي يواجهها تعد بداية للشيوعية في البلاد، وأن ما يتعرض له سببه تقدمه على الرئيس بايدن حسب استطلاعات الرأي. دونالد ترامب لديه تحقيقات كثيرة إلى موعد الانتخابات تهدد امبراطوريته الاقتصادية وربما مستقبله السياسي.

في الانتخابات العامة أمام جو بايدن قضايا الاحتيال هذه وكل الأمور الاشكالية التي تظهر حول دونالد ترامب ستؤثر عليه سلباً بكل تأكيد، فهناك فئة كبيرة من الشعب الأمريكي غير حزبية وغير مقتنعة بأن الانتخابات السابقة كانت مزورة وأن هناك مؤامرة سياسية كبرى ضده وهم يشعرون بالقلق من عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وهؤلاء قد لا يصوتون لترامب، حتى داخل الحزب الجمهوري عددٌ من السياسيين القدامى يخشون من كل هذه الإشكاليات التي تحيط بترامب ويشعرون أنها ستؤثر عليهم بالانتخابات العامة والمشكلة أنها لا تؤثر في الانتخابات الأولية لذلك على الأرجح سيكون ترامب هو المرشح الجمهوري أمام بايدن الذي يتقدم بفارق كبير عن المرشحين الأخرين عن الحزب للرئاسة، فالحزب الجمهوري بحاجة إلى إعادة النظر في سياساته وفي مرشحيه، لأن التوجه الى اليمين المتطرف لن يجعلهم قادرين على الفوز.

إذاً، سيناريو الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 ربما نشهدها بين جو بايدن ودونالد ترامب إلا أن الأمريكيين غير متحمسين لتكرار التجربة حسب آخر استطلاعات الرأي التي بينت أن 32% من الناخبين متحمسين لبايدن مقابل 37% لترامب، و56% من الموالين للحزب الجمهوري متحمسين لترامب و46% من الناخبين الديمقراطيين فقط متحمسين لبايدن مرشحاً عن حزبه، بينما دعم المرشحين بين أوساط الأقليات الآسيوية والإفريقية إذ لوحظ انخفاض دعم بايدن 47% بعد أن كان 63% وقفزت شعبية ترامب 10% لتصل الى 33% مقارنة باستطلاع أُجري قبل أشهر، بالنسبة للإشكاليات القضائية ومحاكمة ترامب يرى 46% من الناخبون أنه ارتكب جريمة، و34% يرون أنه يجب عزل بايدن بسبب انتهاكه للقسم الرئاسي، 76% من الناخبون يتفقون أن بايدن البالغ من العمر 80 عاماً أكبر من يخدم بلده كرئيس لولاية ثانية بشكل فعال و 48% يتحدثون الشيء نفسه عن ترامب مع العلم أن الفارق في العمر بين بايدن وترامب هو ثلاث سنوات.

وبشكل عام يحظى بايدن وترامب بالشعبية ذاتها في استطلاعات الرأي مما يعني أن نتائج انتخابات 2024 قد تكون متقاربة، وهكذا ستجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تدفع فاتورة أزمات النظام السياسي الذي يعاني من خلل بين دور السلطة التشريعية ممثلة في الكونغرس والبيت الأبيض ممثلة بالحكومة ورئيسها، وما ينتج عنه من فساد وسعي لضمان إعادة الانتخاب مرة أخرى بوسائل مشروعة أو غير مشروعة وما تفرزه من سياسيين يتصفون بسوء التقدير والتهور والتضليل بعض النظر عن الحزب القائم في السلطة.

العدد 1105 - 01/5/2024