أين موقع الحداثة الفكريّة والمنهجيّة في ثقافتنا المعاصرة؟

د. عدنان عويّد:

العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، الأصالة والمعاصرة، العلمانيّة، الحداثة، ما بعد الحداثة، الدين، كلّها مفاهيم راحت تطرح نفسها على الساحة الثقافيّة والفكريّة العالميّة بشكل عام، والعربيّة بشكل خاص في التاريخ الثقافيّ والفكريّ المعاصر، الأمر الذي يدفعنا بالضرورة أن ننظر إلى مدى حضور هذه المفاهيم، أو سعة حضورها، في ساحتنا الثقافيّة والفكريّة العربيّة التي راح الكثير ممن اشتغل عليها من المفكرين العرب وفقاً لمواقف إيديولوجيّة يساريّة أو دينيّة أو ليبراليّة. في الوقت الذي لم يزل الكثير منا على الساحة الثقافيّة والفكريّة العربيّة التي حُوصرت لمئات السنين في أسيجة عقليّة ومناهج ترتكز على البيان والعرفان، لم يزل يتعامل مع هذه الظواهر بالمناهج ذاتها التي تقوم على ما قدّمه من اشتغل على الفكر العربي في العصور الوسطى، وخاصة من اشتغل على البيان والعرفان إلى حد كبير ً، مع تأكيدنا أن هناك من تأثر بالمناهج الغربيّة لأسباب سناتي عليها في هذه الدراسة.

لا شك أن هذه المفاهيم الحداثيّة المطروحة هنا: العقل، العقلانيّة، الهويّة، التراث، العلمانيّة، الحداثة، الإيديولوجيا، الدين …الخ، تشكّل في وضعنا الثقافيّ العربيّ الحديث والمعاصر، إشكاليّة قائمة بذاتها، لاعتبارات عديدة يأتي في مقدمتها، أن معظم هذه المفاهيم في صيغها المتعارف عليها اليوم، قد طُرحت في الغرب مع بداية عصر النهضة الأوربيّة، مروراً بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين والحادي والعشرين. وإن هذه المفاهيم راحت تتسرب إلى نسيج خطابنا الثقافيّ العربيّ مع بداية القرن التاسع عشر، بفعل عوامل كثيرة منها:

1- تَأَثُر الطلاب العرب الذين أرسلوا إلى أوربا لمتابعة دراساتهم العليا هناك، وخاصة البعثات التعليميّة التي اشتغل عليها محمد علي باشا، في مصر، وخير الدين التونسي، في تونس، أو بفعل حملات التبشير الأوربيّة في المشرق العربيّ التي فتحت المدارس التبشيريّة الخاصة بها في هذه المنطقة، إضافة إلى ما حققته البعثات أو المنح الدراسيّة التي خصصتها الإرساليات التبشيريّة للطلاب المتفوقين المتخرجين في هذه المدارس لمتابعة دراساتهم العليا في أوربا، والأهم تلك البعثات التعليمية التي قامت بها جامعاتنا العربيّة بعد الاستقلال حتى تاريخه. الأمر الذي أوجد العديد من المثقفين والمفكرين ممن تأثر بالفكر الغربيّ ومناهجه كأديب إسحق، وشبلي شميل، وفرح أنطون، والبستاني، واليازجي ومعظم مفكرينا العرب المعاصرين في المشرق العربي ومغربه ومن كل الاتجاهات الفكريّة.

2- لا شك أن الطلبة العرب الذين درسوا في أوربا منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، وهم كثر في الحقيقة، تأثر الكثير منهم بالفكر الغربيّ ومناهجه، وراح العديد منهم يشتغل بعد إنهاء دراساته في الغرب على مشاريع فكريّة تأثرت كثيرا بالمناهج الفكريّة الغربيّة في التاريخ والفلسفة وعلم الاقتصاد وغيرها، كالعروي الذي تأثر بالمنهج التاريخانيّ، وحسن حنفي بالمنهج الظاهري، والتيزيني بالمنهج الماديّ التاريخيّ، والجابري بالمنهج البنيوي إلى حد كبير برأيي …الخ.

بيد أن التاريخ العربيّ في العصر الوسيط لم يَعْدَم المفكرين والفلاسفة الذين اشتغلوا على العقل بشكل خاص، بالرغم من أن مفهوم العقل ظل عند الكثير من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين العرب والإسلاميين ينوس بين الدماغ والقلب، وقليلون هم الذين عرفوا العقل بمخزونه الثقافيّ الذي تكون أثناء إنتاج الإنسان لخيراته الماديّة والروحيّة تاريخيّاً، كابن رشد وابن خلدون والكندي، وبالتالي فصلوه عن الدماغ ككتلة عضويّة في الجسد البشري له دوره الوظيفيّ في تخزين المعرفة عن طريق الحواس ومعالجتها ونشرها أو توظيفها وفقاً لما يريد صانع هذه المعرفة وحاملها الاجتماعيّ أو القوى الاجتماعيّة التي يمثلها هذا الحامل. علماً أن الذين قالوا بهذا الرأي، أي اعتبار العقل هو المخزون الثقافيّ المختزل في الدماغ، من فلاسفة العصور الوسطى العرب والمسلمين، تأثروا أيضاً بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ بعد أن قاموا بترجمة كتب الفلاسفة الماديين اليونان، بغضّ النظر عن معاناتهم أمام السلطات الحاكمة ومشايخها الذين ناصبوا هذا التوجه العقلاني العداء.

أما في تاريخنا المعاصر، فقد درس الكثير من الكتّاب والمفكرين العرب الفكر الفلسفيّ العقلانيّ للفلاسفة العرب والمسلمين في العصور الوسطى، وسلطوا الضوء على الفلسفة الماديّة منها، كحسين مروّة في كتابه (النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة) على سبيل المثال لا الحصر. مع تأكيدنا أن هؤلاء الفلاسفة والمفكرين العرب العقلانيين المعاصرين قد لاقوا المعاناة نفسها التي لقيها أجدادهم من فلاسفة ومفكري العصور الوسطى، كفر ج فوده، وحامد ابو زيد، وحسين مروة وغيرهم كثير.

عموماً نستطيع القول هنا: إن كل تلك المفاهيم الحداثيّة، يظل العقل النقدي يشكل العمود الفقري لها، إذ لا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يحوز على حقيقته أو مصداقيته التي طُرح من أجلها إلا من خلال ارتباطه بالعقل وبالواقع المعيش. فالديمقراطيّة من دون عقلانيّة تتحول إلى فوضى ومجرد شعارات.. والهويّة الوطنيّة من دون عقلانيّة ستفقد جوهرها وترتكس إلى مرجعياتها التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة.. والتراث من غير إدخال العقل فيه وتحليله وإعادة قراءته كتاريخ شعوب تحركه التناقضات وصراعات مصالح الناس، سيظل تاريخ ملوك وأمراء وإيديولوجيا دينيّة، الأمر الذي سيدفعنا إلى التعامل معه بعواطفنا وأهوائنا ومرجعياتنا ومناهجنا التقليديّة أكثر من تعاملنا معه بعقولنا وحياديتها، وسنظل نتمسك بهذا الماضي كفردوس مفقود بِعُجَرِهِ وَبُجرِهِ. أما العلمانيّة التي يغيب عنها العقل فستفقد مصداقيتها وتتحول إلى ترف فكريّ وشعارات براقة، بدل أن تمثل في واقع أمرها الدولة المدنيّة.. أو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات… الخ، وكذا حال التثاقف بين الحضارات إذا لم يرتكز على العقل عند تبادل المعرفة، سيتحول إلى مركزيّة أوربيّة أو شرقيّة، وظهور نرجسية الحامل الاجتماعي للثقافة وعدوانيته عند تداولها مع المختلف. وهذا حال الحداثة التي ستتحول إلى تقليد الضعيف للقوي في حال غياب العقل القادر على تحديد خصوصيّة المجتمعات وما هي حاجاتها الضروريّة من مفاهيم الحداثة، وما هو الصالح فيها القادر على تحقيق تنمية الفرد والدولة والمجتمع، وما هو الطالح فيها الذي سيعرقل تقدم المجتمع إذا ما أخذ منها. وهذا الموقف المنهجيّ من العقل، وضرورة التعامل معه ينطبق على الإيديولوجيا الوضعيّة والدينيّة معاً، فكلاهما سيتحولان إلى وعي جموديّ غير قابل للنزول إلى الواقع عند غياب العقل النقديّ الذي يعمل دائماً على ربط الفكر بالواقع.

عند حديثنا هنا عن العقل، قصدنا به العقل النقديّ الجدليّ، وليس العقل البذيء القائم على المثاليّة الذاتيّة والحدسيّة أو المثاليّة الموضوعيّة.

كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333d@gmail.com

العدد 1132 - 13/11/2024