الاقتصاد السوري بين الأزمات المحلية والإقليمية والدولية

د. منير الحمش:

تتعرض سورية منذ نيلها الاستقلال السياسي لأزمات متتالية، لأسباب تعود إلى المخططات والنوايا الاستعمارية وإلى مواقفها القومية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن الأسباب الجيوسياسية وخاصة موقعها الجغرافي وتأثيرها فيما يجري حولها وفي العالم.

وتتمثل الأسباب المحلية للتأزم حالياً في انسداد أفق الحل السياسي للأزمة التي بدأت في عام 2011 والاضطرابات وأعمال العنف التي أحدثتها العصابات الإرهابية، وتدخلات الدول الأجنبية التي أسفرت عن قرار مجلس جامعة الدول العربية بتجميد عضوية سورية في مجلس الجامعة وهيئاتها ومؤسساتها، التي ترافقت للأسف مع دعم بعض دول الخليج للعصابات الإرهابية مالياً ومعنوياً إلى جانب الدعم المادي الذي قدمته الولايات المتحدة ودول أوربا، وبضمن ذلك السلاح والمعدات العسكرية، إلى جانب ما قدمته تركيا وبعض دول الجوار العربية من تسهيلات لعصابات الإرهاب.

وقد عانى الاقتصاد السوري بسبب ذلك كله من أزمات ومشكلات زاد من حدتها العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وجامعة الدول العربية، وفي السنوات الأخيرة زاد من حدة الصعوبات التي واجهها الاقتصاد السوري تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية والأوكرانية التي هي في جوهرها حرب الغرب برئاسة الولايات المتحدة على روسيا، كما هي بمثابة (تدريب) للحرب المقبلة مع الصين.

حديثي اليوم سيكون بعنوان:

الاقتصاد السوري بين الأزمات المحلية والإقليمية والدولية، وسأفصله من خلال المحورين التاليين:

المحور الأول: التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة.

المحور الثاني: الاقتصاد السوري وأزماته وكيف يمكن مواجهتها.

المحور الأول: التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة:

لعل أهم التطورات الأخيرة في العالم والتي كان لها تداعيات على المستويات العالمية السياسية والاقتصادية وعلى مستوى العلاقات الدولية كانت جائحة كوفيد 19 كورونا وتداعياتها، فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية في 11/3/2020 تصنيف فيروس كورونا جائحة عالمية، بعد انتشاره السريع في جميع أنحاء العالم مسبباً ملايين الإصابات والوفيات وحالة من الإرباك في الأوساط الشعبية والحكومية وخاصة في الأوساط الصحية، وزاد من حالات الإرباك أساليب المواجهة التي اتبعتها الحكومات، وخاصة حالات الإغلاق والعزل الاحتياطي وتقييد حركة الانتقال وتوقف سلاسل الإمداد (خاصة ما يتعلق بالطاقة والغذاء) وتأثير ذلك على الأمن الغذائي وأمن الطاقة.

وأهم ما طرحته أزمة الجائحة علاقتها بالدولة ووظائفها وارتباطها بمفهوم حماية الأمن الإنساني وما يحيط بالفرد والمجتمع من تحديات ومخاطر تحد من أمن وسلامة المجتمع الإنساني، في ظل علاقات دولية ونظام عالمي تهيمن عليه الولايات المتحدة، الأمر الذي طرح من جديد مسألتين على جانب من الأهمية، وهما: الدولة الوطنية ودورها ووظائفها، والنظام العالمي وحيد القطب والمساعي الجارية إلى تغيير نظام تعددي، فضلاً عن الجائحة وتداعياتها، كان هناك تطور آخر في العالم هو قيام الحرب بين روسيا وأوكرانيا، عندما أعلن الرئيس الروسي في 24 شباط (فبراير) 2022 عن عملية عسكرية تستهدف تجريد أوكرانيا من السلاح واجتثاث النازية منها.

وقد أسفرت هذه العملية بسرعة عن حرب حقيقية بين روسيا من جهة وأوكرانيا من جهة ثانية مدعومة من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.

وتعود مشكلة أوكرانيا تاريخياً إلى مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد انتهى حلف وارسو في حين بقي حلف الناتو برئاسة وقيادة الولايات المتحدة واستمر في أداء مهام جديدة متجهاً نحو الشرق وضم دول جديدة اليه، كانت يوماً من بين دول حلف وارسو رغم ممانعة موسكو التي اعتبرت ذلك استفزازاً لها، ويشكل ذلك الخلفية الاستراتيجية للعملية العسكرية في أوكرانيا. وقد كان توسيع عضوية الناتو وفرض المزيد من الحصار حول روسيا يمثلان موقفاً عدائياً من روسيا، الأمر الذي جعل الرئيس يعلن أن العملية العسكرية في أوكرانيا إنما هي بداية انتهاء النظام العالمي الذي أقامته الولايات المتحدة (والغرب) وفقاً لمفاهيمها.

ويشارك روسيا في موقفها من النظام العالمي الصين ودول أخرى صاعدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وشعوب العالم الثالث المتضررة من ذلك النظام.

وكان من أهم تداعيات الحرب على الاقتصاد العالمي تداعياتها من اختلال سلاسل الإمداد خاصة في مجال الغذاء والطاقة التي كانت قد تأثرت بتداعيات جائحة كورونا، فازداد هذا الأمر تعقيداً، وكانت الآثار على الاقتصاد السوري بارزة خاصة أنه يخضع للعقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوربية، مما شكل عاملاً ضاغطاً على معيشة السوريين. وعلى المستوى العالمي كان للحرب تداعياتها على مستويات النمو وتأثيراتها في تصاعد معدلات التضخم وعلى إمدادات الطاقة (الغاز والنفط) وإمدادات الحبوب (خاصة القمح) ثم جاءت العقوبات الاقتصادية على روسيا كعامل إضافي لحالة التأزم في الأسواق العالمية وخاصة ما يتعلق بإمدادات الغاز إلى أوربا.

ولعل من أهم التطورات على الساحة العالمية، بروز مشكلة تايوان في تأزيم الأوضاع بين الولايات المتحدة والصين، بعد انتشار ما دعته الصين (الأنشطة الانفصالية) في تايوان بتشجيع من الولايات المتحدة، مما أدى إلى زيادة حالة التوتر كما قاد إلى توحيد جهود روسيا والصين في سبيل إقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يقوم على أساس العدل والمساواة بين دول وشعوب العالم، بدلاً من النظام الأحادي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.

وقد جاء الرد الأمريكي (الغربي) على ذلك من خلال الوثيقة الجديدة لحلف الناتو التي يُعلن فيها عن مفهومه الاستراتيجي، وقد أعلنت هذه الوثيقة في تموز 2020 بحيث تحدد كيفية تعامل الحلف مع التهديدات والتحديات للسنوات القادمة.

وأعلن الحلف أن هذه الوثيقة تأتي رداً على (العدوان الروسي) على أوكرانيا ورداً على ما دعاه الحلف (التحديات الممنهجة) التي تقترحها الصين فضلاً عن تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، وهكذا أصبح الهدف الاستراتيجي الأمريكي هو الحيلولة دون نجاح روسيا والصين في تعميق شراكتهما الاستراتيجية، ومن هنا جاء تعبير أن الحرب في أوكرانيا هي بين روسيا والغرب بكامله، وأن الهدف إضعاف روسيا وإبعادها عن تحقيق الشراكة الاستراتيجية مع الصين، وهذا ما يفسر أيضاً الاستفزازات الامريكية للصين في مشكلة تايوان التي تستهدف أيضاً إضعاف الصين، في حين تتصاعد قوة الصين اقتصادياً وتكنولوجياً الى جانب قوتها النووية والعسكرية، مما يجعلها قطباً عالمياً يستقطب بمواقفه وبرامجه العديد من دول وشعوب العالم، وهذا ما يفسر حرص الولايات المتحدة على استمرار عزل الصين والحرص على إضعافها وعم السماح بتشكيل تحالف استراتيجي بينها وبين روسيا.

أما موقف الولايات المتحدة من تايوان، رغم أنها وافقت سابقاً على صين واحدة، إلا أنها بعد التطور الاقتصادي والتكنولوجي للصين وبعد التحول الهائل لتايوان نحو إنتاج أشباه الموصلات التي أصبحت العنوان الأهم للصراع الصيني الأمريكي، فقد أصبحت أشباه الموصلات عصب الحياة المعاصرة، وبعد التقدم الذي أحرزته تايوان في إنتاجها (92% من إنتاج العالم) وبعد أن أصبحت تايوان مصنفاً متقدماً لإنتاج الأسرع والأصغر مقارنة بغيرها مما يفسر جانباً هاماً من الصراع الصيني الأمريكي على تايوان.

 

تصاعد عمليات الاستقطاب ومخاطر تحولات النظام:

ويؤكد هذا التطور على الصعيد العالمي تزايد عدد الدول المنضمة إلى حلف الناتو (كحلف عسكري استراتيجي) وتزايد توجيه الدول إلى الانضمام إلى تكتل بريكس (كتجمع اقتصادي عالمي) بأبعاده السياسية الاستراتيجية.

ومع تصاعد العمليات العسكرية في أوكرانيا وتزايد عمليات التحشيد والتوتر في الشرق الأقصى اتسعت ساحات التنافس بين القوى الكبرى، وأصبحت تشمل الاقتصاد والمال والعلم والتكنولوجيا والسلام والدبلوماسية، في ظل تراجع أمريكي وصعود صيني ومناوأة روسية وتردد أوروبي، وبوجه عام احتدم الصراع بين القوى الكبرى، ويمكن القول إن النظام الدولي دخل في عملية مخاض كبرى ستكون صعبة ودامية وربما يترتب عليها مخاطر كبرى.

 

قضايا الجنوب:

إن احتدام الصراع بين القوى الكبرى الذي قد يؤدي إلى مخاطر عديدة تعترض مسيرة العالم نحو الاستقرار والتقدم والتنمية، ولكنه للمفارقة قد يؤدي إلى فرصة أمام عالم الجنوب من أجل تحسين أحواله الاجتماعية والإنسانية، وفي هذا الإطار يطرح موضوع العودة إلى عصر (باندونغ) والمقصود العودة إلى روح (مؤتمر باندونغ) الذي عقدته دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية في مقاطعة جاوة الغربية في إندونيسيا في نيسان عام 1955 بعد عشر سنوات من مؤتمر (مالطا) الذي عقد بين الولايات المتحدة (الغرب) والاتحاد السوفييتي (الشرق) حيث تم تقسيم النفوذ في العالم بينهما، بينما جاء مؤتمر باندونغ ليرفع شعار الحياد الإيجابي وعدم الانحياز بين الطرفين، ويدعو إلى الاستقرار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ورفض الهيمنة الخارجية وتصفية الاستعمار القديم، ويدعو إلى عالم متعدد متحرر من المركزية الغربية.

في هذه الأجواء تعمل سورية على التخلص من بقايا الإرهاب ومن الاحتلالات الأجنبية وأن تستعيد وحدة أراضيها وسيادتها، وقد أعلنت وقوفها الى جانب روسيا في حربها العادلة مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وممارستها العدائية.

ومع اشتداد حدة الصراع تشهد الساحة العربية تطورات هامة، لعل من أهمها حدثين بارزين الأول نجاح وساطة الصين بين المملكة العربية السعودية وإيران، وعودة العلاقات الدبلوماسية فيما بينهما، واتخاذ القمة العربية في الرياض منتصف أيار 2023 قراراً بإلغاء قرار تجميد عضوية سورية في مجلس جامعة الدول العربية وإعادتها إلى الجامعة ومؤسساتها ومنظماتها، تزامناً مع إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وسورية وبين سورية وباقي الدول العربية تباعاً (ما عدا قطر والمغرب والكويت) لأسباب تقدرها كل منها من منظورها الخاص.

أما على صعيد قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، فلا تزال هذه القضية تحتل المركز الأول وفي مقدمة المشاكل التي تعترض اللأمة العربية، وكانت (إسرائيل) مدعومة من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة قد نشطت في السنوات الأخيرة باتجاه تحقيق التطبيع مع الدول العربية التي لم تعقد حتى الآن معاهدات سلام معها، واستطاعت تحت شعار (الإبراهيمية) في السنوات الأخيرة أن تحدث اختراقاً في دول الخليج فتحقق نوعاً من التطبيع مع كل من دولة الإمارات والبحرين وتسعى جاهدة لتحقيق التطبيع مع السعودية، فضلاً عن تحقيقها ذلك مع المغرب وإلى حد ما مع السودان.

وهي إن حققت تقدماً في هذا المجال، فقد أخفقت في تحقيق التطبيع مع الشعب العربي في مصر أو الأردن رغم توقيع اتفاقات السلام وتبادل السفراء، كما أن السعودية تصر (حتى الآن) على أن التطبيع يرتبط بتحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية.

وسط هذه الأجواء كيف يبدو حال الاقتصاد السوري مع الأزمات التي تحيط به داخلياً وعربياً ودولياً؟

 

الاقتصاد السوري والأزمات:

تحدثت سريعاً عن الأزمات، وبقي أن نتحدث عن الاقتصاد السوري.

جميعنا كمواطنين نشعر بأزمة الاقتصاد السوري من خلال معايشتنا اليومية، لكن قبل ذلك دعوني أذكر لكم هذه الواقعة:

في منتصف تسعينيات القرن الماضي كنت أتحدث في ندوة في الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية في القاهرة حول التكامل الاقتصادي العربي، وفي سياق حديثي رددت أكثر من مرة عبارة (الاقتصاد العربي) فاعترض أحد الحضور قائلاً:

عن ماذا نتحدث؟ الاقتصاد العربي.. وهل يوجد اقتصاد عربي هناك (اقتصاد عربي قطْري بعدد الدول العربية ولا يوجد اقتصاد عربي واحد، أجبته: نعم صحيح.. هناك) اقتصاد قطري ولا يوجد اقتصاد عربي واحد.. ولكني أتحدث عن الأمل.. الأمل في مستقبل يجمع هذه الاقتصادات في اقتصاد واحد.

أتذكر هذه الواقعة الآن.. ولا أعجب إن قام أحد الحضور في هذه القاعة معترضاً بالقول عن أي اقتصاد سوري نتحدث؟ طبعاً لن أعجب ولكني أيضاً سوف أجيب أتحدث عن الأمل في مستقبل يجمع شتات الاقتصاد السوري الممزق الآن في اقتصاد واحد يجتمع في ظل علم واحد في دولة سورية العربية الواحدة والتي تضم 27 مليون سوري، في حدودها الدولية المعترف بها وبمساحة 185 ألف كم2 هذه سورية، وهذا هو اقتصادها الموحد وعنه سوف أتكلم.

كلنا يعرف كيف بدأ الانتداب الفرنسي بتقسيم سورية الى خمس دويلات، ثم انتهت مع الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي وحدت سورية تحت علم واحد، لقد استطاعت الفصائل الإرهابية التي تم تجميعها من أنحاء العالم أن تخلق وقائع على الأرض بدعم ومساندة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ودول الجوار وبعض الدول العربية، فأنشأت بؤراً عملت على تكريس فصلها عن الدولة السورية المركزية المعترف بها، وقد تمثلت هذه البؤر التقسيمية في:

  • الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية وشرق الفرات بإدارة ما يدعى (قسد)، التي يسيطر عليها الكرد.
  • بعض المدن والقرى في الشمال الغربي بإشراف إدارة تركيا والفصائل الموالية لها.
  • إدلب والمناطق التابعة لها بإدارة الحكومة التي يسيطر عليها ما يدعى الائتلاف المعارض.

وتتولى الدولة السورية المركزية من دمشق مسؤولية الحكم رسمياً، إلى جانب توليها مسؤولية باقي المناطق السورية وتتفاوت الأوضاع الاقتصادية في المناطق السورية، لكنها بوجه عام تواجه مشكلات متشابهة، ولنقف على حقيقة الواقع الاقتصادي في سورية. أبدأ بالتحذير الذي قدمه برنامج الأغذية العالمي مؤخراً والذي قال:

(إن معدلات الجوع في سورية بلغت مستويات قياسية في ظل انهيار اقتصادي ومالي مزمن) وقال البرنامج الأُممي في بيانه (بعد نحو 12 عاماً من اندلاع النزاع لا يعرف 12 مليون شخص من أين ستأتي وجبتهم التالية، فيما 2.9 مليون شخص معرضون لخطر الانزلاق إلى الجوع، وتسجّل سورية اليوم سادس أعلى رقم في العالم من ناحية انعدام الأمن الغذائي، وحسب البرنامج الذي حذر أيضاً من (ازدياد معدلات سوء تغذية الأطفال وأمهاتهم بسرعة لا سابق لها حتى خلال أكثر من عقد من الحرب).

والواقع فإن تراجعاً واضحاً في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، بعد تلك السنين من الحرب التي أدت إلى ضياع جيل كامل من السوريين، وأحدثت تأثيراً مدمراً على البشر والحجر والاقتصاد، تجلى في تلك الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى والنازحين واللاجئين داخل البلاد وخارجها، وفضلاً عن ذلك فقد أسفرت الحرب عن خفض كبير في النشاط الاقتصادي بسبب تآكل التماسك الاجتماعي وتدهور الحكومة وتقسيم البلاد، وزاد من حدة النتائج الكارثية للحرب العقوبات الاقتصادية المفروضة من جانب واحد (الأمريكي والأوربي).

وكان واضحاً أيضاً في المجتمعات السورية المختلفة في المدن والريف الارتفاع المستمر لمستويات الفقر، فقد أدى انهيار الأنشطة الاقتصادية إلى جانب العوامل الأخرى إلى تدهور فرص كسب العيش والاستنفاد التدريجي لقدرة الأسرة على التكيف.

وقد تجلت الأزمة الاقتصادية في جميع المناطق السورية في انهيار متسارع ومتواتر في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، والارتفاعات المتوالية والمتسارعة لأسعار المواد والسلع الاستهلاكية الحياتية، إلى جانب الارتفاع في أسعار المشتقات النفطية والكهرباء وانعكاسات ذلك كله على أسعار الخدمات (خاصة النقل والانتقال) وعلى الفاتورة النهائية لتكاليف المعيشة التي أوصلت أعداداً متزايدة من الأسر إلى حالة المجاعة.

ويمكن القول إن الاقتصاد السوري دخل نطاق الأزمة مبكراً مع خروج مناطق عديدة عن سيطرة الدولة، في أثر اندلاع حركات الاحتجاج وتوجيه الدولة مواردها لخدمة المجهود العسكري، فأصبحت النفقات العسكرية تشكل المكون الرئيسي للإنفاق العام على حساب الجانب التنموي، وتحول الاقتصاد إلى (اقتصاد نزاع) يجري من خلاله تدمير موارد البلاد وتحويل المقومات الاقتصادية إلى مصادر لاستدامة العنف وخسارة الأفراد لأعمالهم ووظائفهم ومنازلهم، فانتشرت أعمال العنف جنباً إلى جنب الأعمال غير المشروعة من استغلال واحتكار وتهريب.

ولعل من أهم أسباب تدهور سعر الصرف هو تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي الوطني والحاجة إلى القطع الأجنبي لتأمين احتياجات البلاد الضرورية من الخارج في مقابل انخفاض كبير في التصدير، وبالتالي الخلل في الميزان التجاري (الاستيراد والتصدير) ونتيجة لتراجع النشاط الاقتصادي فقد تم إنهاك الاقتصاد الوطني فتراجعت الإيرادات العامة وبالتالي تم استنزاف هذه الموارد وتصاعدت أرقام العجز في الموازنات العامة.

 

مسارات انهيار الاقتصاد السوري:

تحدث البنك الدولي في نشرته نصف السنوية عام (2022) عن المسارات التي أدت إلى انخفاض حجم النشاط الاقتصادي إلى النصف خلال الفترة الممتدة بين عامي 2010 و 2019 وهي:

  • مسار الدمار: المتمثل في التسبب في الإضرار بالممتلكات والأصول الاستراتيجية.
  • مسار النزوح: الذي تسبب في تعميق شيخوخة السكان نتيجة النزوح.
  • مسار الفوضى: الذي تسبب في الإضرار باللحمة المجتمعية وتردي الحوكمة وأدى إلى الانقسام.

وتشير التقديرات أن الاقتصاد السوري فقد خلال سنوات الحرب ثلثي مقوماته بسبب الأعمال العسكرية والإرهابية والعقوبات والهجرة فضلاً عن خسارته لأهم موارده، ووصل أغلب السكان إلى تحت خط الفقر، وقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 20 مليار دولار (2019) بعد أن كان 60 مليار دولار (عام 2010).

ومع استفحال الفساد وانتشاره، وسيطرة المحسوبيات في الإدارات الحكومية، وطغيان أثرياء الحرب، وتشديد العقوبات الاقتصادية، يستمر تراجع الاقتصاد الوطني بمؤشراته المختلفة كما يستمر تصاعد معدلات التضخم (المنفلت)، وبالتالي يستمر تدهور سعر الصرف والإضرار بثقة الناس بالعملة الوطنية، مع تصاعد العمليات العسكرية في أوكرانيا وانعكاساتها السلبية على سلاسل التوريد وعلى الأمن الغذائي وأمن الطاقة والتضخم في جميع أنحاء العالم، تزداد الصعوبات المعيشية أمام فئات الشعب المختلفة في سورية ويزداد تأثير العقوبات أمام الاقتصاد السوري في جميع المناطق، عدا المناطق تحت حماية ورعاية الولايات المتحدة التي حازت على استثناء أمريكي.

وإذا كانت المناطق تحت سيطرة الحكومة السورية، تقيم علاقاتها التجارية الخارجية (الاستيراد والتصدير) بالطرق الشرعية المعتادة فضلاً عن عمليات التهريب التي تجري عامة في جميع الحالات، فإن المناطق خارج سيطرة الحكومة يتم فيها تهريب المواد والسلع من قبل المهربين من جميع الأطراف، وغالباً ما تكون بمعرفة قادة الفصائل المسلحة ومشاركتهم.

من المتوقع أن يستمر تدهور الأوضاع الاقتصادية في سورية، أما السبب في ذلك فهو تعدد وتشابك العوامل المؤثرة في المسألة السورية، فهناك إلى جانب العوامل الذاتية المتوارثة، العوامل الداخلية المستجدة منذ اندلاع حركات الاحتجاج (آذار 2011) وهناك السياسات الاقتصادية والتخبط في القرار الاقتصادي فضلاً عن الفساد ودور تجار الأزمة وأمراء الحرب، وتشابك علاقاتهم مع الخارج، ويأتي فوق ذلك طبعاً استمرار تقسيم البلاد وفقدان سيطرة الحكومة المركزية على كامل الأراضي السورية، مع وجود الجيوش الأجنبية والفصائل المسلحة، وإلى جانب العوامل الداخلية، هناك العوامل الخارجية وأبلغها تأثيراً ما يجري في دول الجوار خاصة لبنان وتركيا والأزمة الاقتصادية في كلا البلدين، وهناك التدخلات الخارجية وخاصة من دول الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.

ويأتي قرار القمة العربية ومجلس جامعة الدول العربية بإلغاء قرار تجميد عضوية سورية في الجامعة وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين سورية والدول العربية خاصة السعودية، والقرار (بتطبيع) العلاقات بين سورية والسعودية والدول العربية الأخرى، يأتي ذلك كله ليخلق نوعاً من التفاؤل لدى الرأي العام السوري، والأمل في تحسين الأوضاع المعيشية وحل الأزمة الاقتصادية إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، فلم يشهد الاقتصاد السوري انفراجاً ما لأزمته، كما لم يشهد المواطن السوري تحسناً في أوضاعه المعيشية، أما السبب فهو ما ذكرناه حول تعقد وتشابك المسألة السورية، ويأتي في مقدمة الأسباب الجمود الذي يحيط بمسألة الحل السياسي والتي يأتي في مقدمتها موقف الولايات المتحدة المتعنت تجاه أي حل، فهي تعمد إلى عرقلة وإعاقة أي تقدم في المسار السياسي، كما أنها تشدد عقوباتها التي تتناول أسباب العيش للسوريين، وهي لا تكتفي بعقوبة الشعب السوري، إنما تعاقب أيضاً الدول التي تفكر بتقديم عون لسورية أو تفكر بإقامة علاقات طبيعية مع الحكومة السورية.

وللأسف تقف دول الاتحاد الأوربي المنافق موقفاً لا يتفق مع الشعارات السياسية التي ترفعها حول حقوق الإنسان والديمقراطية.

والأسف يزداد مرارة مع ما نجده في مواقف بعض ما يدعى المعارضة الديمقراطية الوطنية من السوريين، إذ تصل الأمور لدى بعضهم إلى مستوى تحريض الولايات المتحدة على اتخاذ المزيد من المواقف العدائية تجاه ما تدعوه (النظام السوري).

 

أزمة في الاقتصاد السوري، ما هو الحل؟

نصل الآن إلى المسألة الجوهرية في هذا اللقاء: كيف نواجه المشكلة الاقتصادية في سورية؟

هذا السؤال ليس جديداً، إنما هو مطروح قبل الأزمة وخلالها ويتجدد طرحه الآن.

وقد صدر لي كتاب عام 2019 بعنوان: سؤال الاقتصاد في (الأزمة/ الحرب) السورية وقد ضمنته فصلاً حول كيف تعاملت بعض الدول مع المشكلة الاقتصادية بعد الحرب وبعد الأزمات.

كما قدمت في العام نفسه محاضرة في الجمعية بهذا العنوان، ركزت في الكتاب وفي المحاضرة على فكرة أساسية وهي أن العامل الاقتصادي كان ولا يزال عنصراً أساسياً في الأزمات والحروب، وهو سيكون كذلك في مرحلة التعافي والمراحل التالية، وأن مدى النجاح في مرحلة التعافي وما بعدها يرتبط بنتائج المراجعة التي يجب أن تجري للسياسات الاقتصادية التي كانت متبعة قبل الأزمة وخلالها، وحول دور الاقتصاد والسياسة الاقتصادية والاجتماعية في تهيئة الظروف التي تخدم أهداف من يسعى للحرب أو للأزمة، وبالتالي فإن الضرورة تفرض تحولاً في السياسات الاقتصادية والاجتماعية يتناسب مع الدروس المستخلصة، الأمر الذي يحتاج إلى تغيير في التفكير والمسائل المرتبطة بالاقتصاد والتحليل الاقتصادي فضلاً عن تغيير الوسائل والأدوات، وهكذا فإن حل مشكلتنا الاقتصادية والانطلاق نحو مرحلة جديدة من التعافي وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب:

  • إجراء مراجعة موضوعية للسياسات ما قبل الأزمة وخلالها وحتى الآن.
  • وضع الأساس النظري والإطار العملي للسياسات المقترحة لمرحلة التعافي وما بعدها واتخاذ خطوات جادة بالابتعاد عن التوجهات الليبرالية التي كانت السبب الأساسي للأزمة.
  • السير بثبات نحو الحل السياسي للأزمة السورية وتحقيق الجلاء الشامل للجيوش الأجنبية غير الشرعية والقضاء على جميع الفصائل الإرهابية والتحقيق العملي لوحدة التراب السوري (185 ألف كم 2) ووحدة الشعب السوري (27 مليون نسمة على أرضه).
  • توطيد ثقة المواطن السوري باقتصاده وعملته الوطنية ومؤسساته.
  • يجب أن تشمل عملية مراجعة السياسات أولاً القرارات المالية المتعلقة بالضرائب وخاصة في جانبها المتهافت على زيادة الإيرادات، وكذلك القرارات الخاصة بالتخلي عن بعض أصول الدولة من المباني والأراضي والمؤسسات، تحت عناوين تشاركية أو من خلال عقود خاصة.
  • مواجهة علمية سريعة وإسعافية لتدهور الحالة المعيشية ومعالجة حالة عدم تناسب الرواتب والأجور مع تكاليف العيش الكريم.

سألني الصديق الصحافي الملتزم بقضايا الناس الأستاذ زياد غصن: كيف نواجه مسألة الفقر والجوع في سورية؟ لخصت إجابتي الطويلة بـ: الإرادة والإدارة.

وأقصد بالإرادة وجود قرار سياسي ملتزم للجميع.

أما الإدارة، فهي الحكومة بمؤسساتها المختلفة، بأن تكون نزيهة وعلمية وموضوعية تمتلك الأفق وتتحكم بمفاصل وتفاصيل المشكلة وتمتلك القدرة على التخطيط والمتابعة والتنفيذ.

ويأتي في السياق الكثير من التفاصيل المتعلقة بقضايا الإنتاج (الزراعي والصناعي والحرفي) والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، والانتقال من حالة الاقتصاد الريعي إلى حالة الاقتصاد المنتج، ويأتي قبل ذلك كله السير قماً على طريق الحل السياسي للأزمة.

العدد 1104 - 24/4/2024