اتفاقية أوسلو خطيئة أكبر من أن تغتفر

د. نهلة الخطيب:

بعد مرور 30 عاماً على اتفاق أوسلو، الذي وصفه محمود درويش بأنه (مجازفة تاريخية وخطيئة أكبر من أن تُغتفَر)، نجد أن الفلسطينيين يدفعون ثمناً باهظاً نتيجة هذا الاتفاق الكارثي مع وصول حكومة اليمين الإسرائيلية بزعامة نتنياهو التي نعت السلطة الفلسطينية بإقدامها على تصرفات أحادية الجانب، والمترافقة مع استمرار غول الاستيطان الذي زاد بمعدل 350% عن عام 1993 والذي جعل إقامة دولة فلسطينية متصلة أمراً مستحيلاً، إضافة إلى التدمير والتجويع وتهويد القدس ومحاصرة الأقصى واقتلاع الزيتون ومصادرة الأراضي واعتقال آلاف الفلسطينيين، فالسلطة بلا سلطة والدولة بلا أرض، فضلاً عن الانقسام وهشاشة الموقف السياسي واستمرار التنسيق الأمني، وهو البند الأهمّ من وجهة نظر إسرائيل والذي لا يجوز تجاوزه. بلغ اليأس والإحباط مداه عند الشعب الفلسطيني وعموم اللاجئين الفلسطينيين في أماكن سكنهم بعد إزاحتهم من المعادلات السياسية الفلسطينية، ونظراً لحجم الكارثة والمأساة الوطنية والإنسانية التي حلت باللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان وتبعاتها على المخيمات عموماً التي شكلت مركز كيانياً مؤقتاً للاجئين الفلسطينيين، وما تمثله من خطوة خطيرة وطنياً نحو تصفية الوجود المخيماتي واللاجئ عموماً، وانعكاساتها عملياً على تطبيق القرار الدولي رقم 194 الخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، أوسلو أنهى الصراع العربي الإسرائيلي، وفتح فرصة أمام الأنظمة العربية لإنزال السقف في العلاقة بإسرائيل إلى حد التعاون والتطبيع،  وخلق واقعاً يستحيل عكسه، فهل هو خطيئة أم صواب؟

أدّى انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه إلى غيابه تدريجياً عن المسرح العالمي والإقليمي وخاصة الشرق الأوسط، مما فسح المجال أمام تسوية وفق منظور زعيم القطب المنتصر الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تزامنت الأحداث مع حرب الخليج عام 1990 التي أتاحت فرصة للولايات المتحدة الأمريكية لجمع الدول العربية تحت رايتها، وإعلان الحرب ضد صدام حسين بمشاركة مصر وسورية ودول الخليج، وأصيبت منظمة التحرير الفلسطينية بالهزيمة الدبلوماسية نتيجة مواقفها المساندة للعراق وخروجها القسري من لبنان عام 1982 فخسرت إقليمياً ودولياً، الأمر الذي دعاها لقبول حضور مؤتمر مدريد الدولي للسلام بشروط مجحفة، فقد استُبعِدت مشاركة منظمة التحرير بصفة رسمية، وكانت المشاركة بممثلين فلسطينيين عن الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن الوفد الأردني. انعقد المؤتمر عام 1991 برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وحضور أوربي شكلي، فالشروع في المفاوضات قضية تمس مصداقية أمريكا إزاء التزاماتها العربية فقد اتهمت بأنها تكيل بمكيالين، ففي الوقت الذي تعاقب العراق، تجدها تغض النظر عن جرائم إسرائيل المرتكبة ضد الفلسطينيين.

ونتيجة للتسويف الإسرائيلي في المفاوضات التي دارت في واشنطن والظروف الدولية والإقليمية، قبلت القيادة الفلسطينية بفتح قناة سرية في العاصمة النرويجية أوسلو، أسفرت عن قبول منظمة التحرير بتوقيع اعلان اتفاق أوسلو في 13/ 9/ 1993، الذي أنهى الصراع الطويل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، من خلال الاعتراف المتبادل بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة، وتطبق التسوية المنصوص عليها في الاتفاق على ثلاث مراحل متداخلة وتنتهي عند إتمام المفاوضات المتعلقة بالحل النهائي، ويمكن تلخيص أبرز نقاطها بسطور:

أولاً- انتخاب مجلس فلسطيني في الضفة وقطاع غزة تحت إشراف دولي ووفقاً للشروط الإسرائيلية بالكامل ونقل السلطات إليه، المجلس يشرف على تولي شؤون الحكم الذاتي وتشمل شؤون التربية والتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية، وفرض الرسوم والضرائب وتشكيل الشرطة، وتبقى إسرائيل محتفظة بمسؤولية الدفاع والأمن الشامل في الأراضي المحتلة، خلال مرحلة انتقالية مدتها 5 سنوات للحل النهائي.

ثانياً- انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة وأريحا في مدة أقصاها أربعة شهور من بدء سريان الاتفاق.

ثالثاً- تبدأ المفاوضات في السنة الثالثة من المرحلة الانتقالية وتتناول ملف اللاجئين والقدس والمعاهدات الأمنية والحدود والعلاقات مع دول الجوار.

رابعاً- تشكيل لجان تعاون اقتصادي وأمني يهدف إلى تعزيز التعاون بين الطرفين في مختلف الميادين كهرباء وماء ونقل وتجارة وصناعة.

فالكيان الفلسطيني الناتج عن أوسلو يقوم أمنياً تحت حماية الاحتلال الإسرائيلي، وهو مشروط بنبذ منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية للإرهاب والعنف والحفاظ على الأمن ومنع العمل المسلح ضد إسرائيل، واقتصادياً هو ملحق بالمشاريع المشتركة معه، وسياسياً لا ينال شيئاً إلا بالتفاوض الثنائي وموافقة القيادة الإسرائيلية، وهذا يخدم أهداف إسرائيل لتصبح قوة سياسية واقتصادية إقليمياً وحتى دولياً، وبالنظر إلى ايجابيات الاتفاق وسلبياته نجد أنه ولأول مرة تعترف إسرائيل رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية وبالشعب الفلسطيني وبحقوقه الشرعية في إقامة كيان له على أراضيه في الضفة والقطاع، وانسحاب الجيش الإسرائيلي منها بعد 26 عاماً من الاحتلال، ويؤخذ على منظمة التحرير أنها تفردت بالموافقة على الاتفاقية واعترفت بحق إسرائيل في الوجود مما يعني شرعية احتلال 78% من أرض فلسطين المحتلة عام 1948 والتي لا تجري عليها أية مفاوضات، وقبلت ب22% في الضفة الغربية وقطاع غزة التي لم تجرِ الإشارة إليها كأراضٍ محتلة، مما يعزز الاعتقاد بأنها أراضٍ متنازع عليها، وتحويل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة تحت الاحتلال، تأجيل قضايا أساسية كملف اللاجئين وحق العودة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وفق الشرعية الدولية ومستقبل المستوطنات، ولأن منظمة التحرير تعهدت بعدم اللجوء إلى القوة إطلاقاً فقد أصبحت سلطة القرار والتنفيذ على الأرض بيد إسرائيل التي تملك أوراق القوة وأوراق اللعبة.

أكدت الولايات المتحدة الأمريكية حقيقة موقفها، واتّبعت سياسة الجزرة والعصا في التعامل مع القضية الفلسطينية حول الحل المقترح على المسار التفاوضي الفلسطيني- الإسرائيلي، ومخاطره على القضية الوطنية الفلسطينية ومسائل الحل النهائي من جهة، وانفضح الانحياز الأمريكي مرة أخرى في التعامل مع المعضلة الفلسطينية عموماً من جهة ثانية. وأن هدف أمريكا ضمان استمرار التفاوض، الذي يؤكد المراقبون أنه (تفاوض على التفاوض) لا أكثر ولا أٌقل، أما المواقف والسياسات الإسرائيلية التي لم تضمن تنفيذ الاتفاقيات الثنائية السابقة على علاتها ونواقصها، فإنها بالتأكيد غير قادرة على توصّل حكومة نتنياهو إلى مجرد الدخول في مفاوضات قضايا الحل النهائي أو رعايتها والتزامها بنتائجها، وهذا ما تؤكده أيضاً سياسات الحكومات الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد عام 1991 إلى اتفاق أوسلو عام 1993، وهذا ما يتطلب أيضاً مراجعة وتقييماً فلسطينياً لعملية المفاوضات برمتها.

في ذكرى الأحداث المفصلية في تاريخ الشعوب مثل اتفاق أوسلو بالنسبة للشعب الفلسطيني، من المهم الحفاظ على الوجود الفلسطيني المتماسك والذي هو خطوة كبيرة نحو بقاء المأساة الفلسطينية قائمة ومطروحة على دول العالم حتى إيجاد حلول عادلة لها وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة في العودة إلى الوطن الأم فلسطين، وأمام مخاطر استئناف المفاوضات من تباينات وخلافات فلسطينية واستبعاد موافقة أي مسؤول فلسطيني عليه، فإن ذلك يطرح العديد من الخطوات الملحة فلسطينياً ومنها:

  • الإعلان الفلسطيني الرسمي عن رفض أي مشروع لاستئناف مفاوضات لا طائل منها، سوى الربح الصافي لحكومة نتنياهو ومشروع التهدئة الأمريكي.
  • مواصلة الخطوات الفلسطينية للانضمام إلى مؤسسات الأمم المتحدة الأخرى بعد أن أصبحت دولة فلسطين عضواً في جمعيتها العمومية (محكمة العدل الدولية، محكمة الجنايات الدولية، مجلس حقوق الإنسان، اتفاقيات جنيف.. الخ)، بوصفها مؤسسات يمكن الاستفادة منها كساحات للنضال ضد السياسات التوسعية الإسرائيلية والاستيطان.
  • الاستفادة من المتغيرات الدولية في التعامل مع الإشكاليات الإقليمية، التي ساهمت فيها أيضاً المواقف المبدئية للعديد من دول المنطقة وصحة سياستها ودقة تحالفاتها، وأفول الأحادية القطبية وبدء تكرس التعددية القطبية.
  • استغلال حاجة الولايات المتحدة إلى تهدئة العديد من بؤر التوتر وليس إلى إيجاد حل دائم لها، ومحاولة تجنب تكرار أزماتها في أفغانستان والعراق.. وأخيراً في أوكرانيا، خدمة لمصالحها وشبكة علاقاتها ووضعها الدولي الراهن.
  • ولا نتجاهل هنا أهمية وضرورة مواصلة الجهود لإنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني، وتبعاته الكارثية على القضية الفلسطينية محلياً ودولياً، والذي ساهم إلى جانب المتغيرات العربية السلبية الأخرى (ثورات الربيع العربي) بتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية بوصفها أساس الصراع في المنطقة، وما تتطلبه هذه الجهود من خطوات لمعالجة الأوضاع الداخلية الفلسطينية وتصحيحها، وتفعيل آليات المقاومة الشعبية الضرورية والمطلوبة أيضاً.
العدد 1107 - 22/5/2024