قصة (المُدن المنسية) في عفرين

فادي إلياس نصار:

خمس سنوات مرَّت على استباحة القوات التركية لمدينة عفرين، تلك الأرض التي تضم فيها أكبر تجمع أثري في سورية كلها، بل في العالم، إنها المدن المنسية (أو المدن الميتة) التي تقع حول (عفرين)، والعائد بناؤها إلى الفترة بين القرنين الأول والسابع للميلاد. تلك المدن التي كان عددها 778 موقعاً أثرياً (بحسب المعهد الفرنسي لآثار الشرق الأوسط (IFAPO) وقد أصبح نتيجة الاكتشافات الأثرية التي تابعها الآباء الفرنسيسكان الثلاثة، بقيادة عالم الآثار الكاهن الصقيلي باسكال كاستيلانا،  820 موقعاً  في جبل سمعان وجبل الزاوية وحول إدلب وسواها، لم يكن قد عرفها أيّ باحث أو عالم آثار قبلاً، معظمها مواقع كبيرة نوعاً ما، بُني فيها بين القرنين الرابع والسادس للميلاد أكثر من 2000 كنيسة، كانت دُرّتها (بازيليك القديس سمعان العمودي) التي لا تزال شامخة، رغم كل محاولات تدميرها،  والمفارقة التي تثبت مدى محبة المؤسسات الأممية لسورية هي أنه لم تتحقق إضافة (المدن المنسية) إلى قائمة التراث العالمي من قبل اليونيسكو حتى عام 2011.

 

البارة.. شاهد على العصر

تقع بلدة البارة بين ثنايا جبل الزاوية في محافظة إدلب، أطلق عليها الرومان اسم (كابرو بيرا)، تعود أهميتها إلى آثارها الثمينة التي لاتزال صامدة، فمن البيوت الحجرية والمعابد كدير سوباط، مروراً بمعاصر للزيتون، وأخرى للخمور نُقش عليها اسم إله الخمر (باخوس)، وثلاث كنائس ذات تصميم بازيليكي بثلاثة أجنحة. وصولاً الى الأضرحة الضخمة الكثيرة ذات القاعدة المكعبة الشكل والمرصوفة بالحجارة المشذبة، والتي يعلوها هرم حجري رباعي، فيما جدرانها والأبواب مُزينة بزخارف نباتية بارزة، وهذه الأبنية ترقى إلى القرنين الخامس والسادس الميلادي.

 

التركي.. والأربعون حرامي!!

تاريخياً تُعتبر المنطقة الحاضنة للمدن المنسية، عموماً، الموطن الأول لشجرة الزيتون السوري، ولم يكتف الجيش التركي عند دخوله  المنطقة بالسير على خطا الفرس الذين غزوا البلاد بين عامي 527 م و627 م وقطعوا غابات الزيتون، بل  وبتوجيه من إردوغان شخصياً، توجهت القوات التركية (المحتلة)، لنهب المنطقة التي يوجد فيها كهف دو ده ري_( Du derî) العفريني، الذي يقع على حافة (جبل سمعان)، ويعتبر أعمق وأكبر مغارة في يومنا هذا، تعود الى العصر الحجري المبكر، ففي هذه المغارة اكتُشِف هيكل عظمي لطفل عمره سنتان ونصف، يعود  إلى العصر النياندرتالي (60 -100ألف عام قبل الميلاد)،

اعتبر علماء الآثار أن اكتشاف هذا الطفل مسألة آثارية مهمة، لأن وجوده يتزامن مع الوجود المعرفي للبشر (الإنسان)، إضافة إلى أن الطفل عُثِر عليه مدفوناً بطريقة توحي بأن الدفن كان شعائرياً، مما يدل على وجود شكل من أشكال العبادات- الدين، وبالتالي وجود حضارة موغلة بالتاريخ.

كما اكتشفت في أرضية الكهف ذاته أدوات حجرية على عمق أربعة أمتار تعود إلى الحضارة اليبرودية (300 ألف سنة قبل الميلاد).

لقد كلف العدوان التركي على سورية، التراث الإنساني العالمي، تدمير 60 في المئة من معبد (عين دارا) الأثري، الذي بُني في القرن الرابع قبل الميلاد، في قرية زراعية تعود إلى العصر الحجري، سكنها الإنسان قبل 10 آلاف عام، بدليل الأدوات الصوانية المكتشفة فيها، والذي نُحتت حجارته البازلتية، بأشكالٍ نافرةٍ وبارزةٍ، تُصوّر أسوداً مجنّحةً ورؤوساً آدمية لنساءٍ ورجال، يُعتقد أنها تمثل الآلهة التي كانت تعبد في تلك الحقبة التاريخية، وكذلك تماثيل لثيران عملاقة تتشابه مع المنحوتات الميتانية والحثية، ويُرجّح الباحثون أنّ المعبد شُيِّد لإله الشمس، ويحتوي مدخل المعبد على طبعات أقدام عملاقة (طول الواحدة منها 90 سم) منحوتة في الصخر تدل على وجوب خلع الأحذية قبل دخول المعبد الذي توصل إلى قدس أقداسه القدم اليمنى.

 

حريات وديمقراطية.. أم تجارة آثار؟

ليس مستغرباً أن تصبح أسواق العالم الغربي، منذ بداية الحرب على سورية، حتى يومنا هذا، مفتوحة للآثار السورية المنهوبة التي هُرّبت إليه عبر تركيا (ولبنان)، بالتواطؤ مع بعض الفاسدين الذين كانوا يتحكمون بالمعابر الحدودية. ففي عام 2015 نشرت صحيفة (الغارديان) تقريراً عن نهب التحف الأثرية من سورية، وبيعها في بريطانيا ودول أوربية أخرى، وبعدها بأشهر قليلة نشرت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية، تقريراً حول رواج تجارة الآثار السورية المسروقة في لندن، وأشار التقرير إلى أن المواقع المستهدفة للنهب تضم بشكل خاص تلك التي صنفتها منظمة العلوم والثقافة والتربية (يونيسكو) التابعة للأمم المتحدة، على أنها جزء من التراث الإنساني.

العثماني هو ذاته، والدوافع هي ذاتها التي ارتكبت بسببها مجازر (طور عابدين) بحق السريان بين عامي 1894-1896، ومجازر الأرمن (أكثر من مليون ونصف أرمني قتلوا بين عامي 1914 و1923) ومثلها المجازر التي ارتكبت بحق اليونانيين البونتيك (مليون ضحية). أضف الى هذا ما قامت به الدولة العثمانية، من تهجير لملايين أخرى من هذه الشعوب وتدمير حضاراتها، مستعمرون جدد يريدون ببساطة مسح كل آثار الحضارات التي مرت على بلادنا، لعلهم بذلك يُسَهِّلون على الإسرائيلي عملية إثبات أنه صاحب الأرض من الفرات الى النيل!

المؤكد أن الحرب على سورية ستنتهي يوماً ما، ولن يستطيع أحدٌ منع الربيع من القدوم، والتركي الأجير سيبقى أجيراً، يداه ملوثتان بدماء الشعب السوري، الشعب الذي يقول دوماً: الدّم ما بيصير مَيّ، لن ننسى ولن نسامح.

نافلة القول إن من يقتل الشعوب ويُهجِّر أهلها، ويدعم الإرهابيين وأعداء الحضارة، ومن ينهب ثروات الأمم، وينشر الجهل والأمراض والرعب والقهر، لن يستطيع زراعة الغابة السورية، ولن يعيد بناء معبد (عين دارا) كما أنه من المستحيل أن يبدع تحفة معمارية مثل كنيسة سمعان العامودي، وسيبقى يسري عليه قول جدّي: عدوّ جدّك ما بودّك!

العدد 1107 - 22/5/2024