قمة البريكس.. حدث استثنائيّ

د. نهلة الخطيب:

أنهت قمة مجموعة بريكس الدولية بدورتها الخامسة عشرة ( البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) أعمالها في جوهانسبرغ جنوب إفريقيا في 24/8/2023، بحضور رؤساء دول المجموعة مع تغيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المطلوب بموجب مذكرة اعتقال دولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وكانت حدثاً استثنائياً في ظل تحديات عالمية وجيوسياسية ووسط اهتمام دولي لاقتناص مقعد عضوية فيها، انضمام دول جديدة يؤثر على التوازنات الجيوسياسية للمجموعة وبالتالي سيكون لها وزناً أكبر سياسياً واقتصادياً وثقل دولي، اليوم تمثل 30% من اقتصاد العالم وقد تمثل نصف اقتصاد العالم في عام 2040 إضافة الى الثقل السكاني، سعت 24 دولة منها أربع دول عربية ( دول نفطية وأخرى منتجة للغاز) للانضمام الى هذا التحالف لما له من فوائد وتسهيلات اقتصادية تمنحها المجموعة لأعضائها.

خلصت القمة إلى الاتفاق على العديد من المسائل الكفيلة بتعزيز حضورها الاقتصادي-السياسي الدولي بوصفه خطوة هامة نحو إصلاح المنظومة المالية والنقدية العالمية وتحقيق التوازن في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، كما أوصت بزيادة قاعدة الدول المنضمة للتحالف والموافقة على انضمام السعودية والامارات ومصر إضافة إلى إيران وأثيوبيا والأرجنتين، وتضمن البيان الختامي دعم لروسيا في رئاستها لمجموعة بريكس عام 2024، وموقفها حول العديد من القضايا الإقليمية والدولية التي يعانيها عالمنا وكيفية التعاطي الدولي معها لما تمثله من ضرورة للوصول إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر مرونة وعالم أكثر أمناً واستقراراً وعدالة.

وتجدر الإشارة إلى أن مساهمة دول بريكس خلال السنوات الأخيرة في النمو الاقتصادي العالمي بنحو 50%، وتمثل ما يقارب 30% من الاقتصاد العالمي، ونحو 40% من مجموع سكان العالم، وتتميز بريكس عن غيرها من الروابط بالعديد من المزايا بأنها موزعة على قارات ثلاث ولدولها حضورها القوي في هذه القارات، كذلك عدد السكان الكبير لدولها مما يعني حجم العمالة الضخم في بلدانها ووفرة الموارد الطبيعية التي تمتلكها والضرورية للنمو الاقتصادي، كذلك ضخامة السوق الذي تشمله والذي يعني إمكانيات كبيرة لاستهلاك السلع والخدمات، وهي بمجموعها ميزات هامة وأساسية ساهمت وما تزال في دعم النمو السريع لدول بريكس أكدتها السنوات القليلة الماضية من عمر المجموعة، إذ اتفق زعماء دول بريكس على إنشاء مصرف إنمائي للتنمية برأسمال قدره 100 مليار دولار تتقاسمه دول المجموعة بالتساوي فيما بينها ويبدأ برأسمال أولي قدره 50 مليار دولار، كذلك إنشاء صندوق طوارئ برأسمال قدره 100 مليار دولار يهدف إلى دعم الدول النامية وتزويدها بالقروض الإنمائية طويلة الأجل التي تحتاجها، تتفق دول بريكس على آلية عمله على أن تكون شروط عملياته المالية مغايرة لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين، ورغم الأهمية الفائقة لهذين المشروعين الماليين فإن من شأنهما وضع اللبنة الأولى والأساسية في عملية إصلاح المنظومة المالية والنقدية الدولية التي أبدت دول المجموعة امتعاضها من عرقلة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لهذا الإصلاح المالي الدولي، وينظر إليهما بوصفهما يشكلان بديلاً محتملاً لهاتين المؤسستين الماليتين الدوليتين( البنك والصندوق)، وأنهما يشكلان رداً عملياً على رفض واشنطن عام 2010 لاقتراحات إصلاح صندوق النقد والبنك الدوليين وآليات عملهما، إذ ستمنح هاتان المؤسستان الماليتان قروضاً لتمويل مشاريع تنموية طويلة الأمد للدول النامية، وسيحقق ذلك وسيلة أمان للدول المقترضة ويساعد في حل مشكلة نقص الأموال وخاصة في مشاريع التنمية الاقتصادية لهذه الدول، ويساعد أيضاً دول الاقتصادات الناشئة في مواجهة التقلبات وعدم استقرار الأسواق، كما سيزيد من تأثير وفعل مجموعة بريكس في المفاوضات الهادفة إلى إصلاح النظام المالي العالمي، ويمثل خطوة عملية كبيرة على طريق الانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم التعددية القطبية الذي تسعى إليه المجموعة وغيرها من الدول الفاعلة والمؤثرة في عالمنا.

وعلى الرغم من وجود تفاوت كبير في النمو الاقتصادي داخل المجموعة، كذلك في الاحتياطي النقدي، السوق، الصادرات …الخ، ووجود علاقات اقتصادية قوية لدول المجموعة مع الدول الأخرى قياساً بالعلاقات القائمة راهناً بين دول المجموعة نفسها، كذلك التباطؤ في نمو بلدانها رغم أن معدل النمو فيها يظل أسرع من نظيراته في الدول المتقدمة، فإن من شأن قرارات القمة أن تساعد في حل هذه النواقص ووضع الأسس لتجاوزها أيضاً، إذ ينظر إلى هذه المجموعة رغم عمرها القصير مقارنة بالروابط والتكتلات الاقتصادية الأخرى بأنها قد حققت وما تزال العديد من النجاحات الوطنية والدولية وتواصل جهودها للوصول إلى عالم أكثر توازناً واستقراراً، وهذا ما أكدته أوضاع هذه الدول قبيل الأزمة المالية الأمريكية ثم العالمية إذ استطاعت تجنب أثارها وتبعاتها أيضاً، وتسعى مجموعة بريكس إلى تقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي لصالح العملات الوطنية وصولاً إلى عملة مشتركة بديلة عن الدولار في ظل ارتفاع مستويات الفائدة الأمريكية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، كما أنها حثت دولها على رفع عدد الاتفاقيات التجارية وتسهيل عملية الاقتراض المالي من البنوك وتداولها بالعملة المحلية بحلول عام 2026، كما أنها ناقشت باهتمام أزمة الغذاء العالمي لمواجهة كل الإجراءات التي اتخذتها الهند بخصوص تصدير الأرز وخروج روسيا من اتفاقية الممر الآمن للحبوب.

دعا رئيس جنوب إفريقيا إلى اقامة نظام تجاري متعدد الأطراف يدعم التنمية في الوقت الذي أكد فيه الرئيس الروسي بقاء بلاده مصدراً موثوقاً للغذاء في إفريقيا وأن قرار التخلي عن الدولار لا رجعة فيه، واعتبر الرئيس الصيني أن القمة تقف عند انطلاقة تاريخية جديدة داعياً الدول الى تعزيز التنسيق والشراكة، أما مستشار الأمن القومي الأمريكي فقال إن واشنطن لا ترى في بريكس خصماً جيوسياسياً لها بسبب الخلافات بين دولها على ملفات أساسية.

الولايات المتحدة دولة محورية في الاقتصاد العالمي ولها دور كبير  في مجموعة السبع ولديها تأثير كبير من خلال الدولار في الاقتصادات حول العالم ولديها تحالفات كالناتو وتحالفات عسكرية هنا وهناك وعلاقات قوية مع الدول الأوروبية، وبالتالي فهي تشعر بالخطر بسبب خسارة الأسواق الإفريقية وبعض الأسواق الآسيوية، فهناك مواجهة حقيقية مع الصين وصراع لولادة أقطاب جديدة، لذلك تسعى الصين في البريكس إلى إيجاد تحالف مضاد للولايات المتحدة الأمريكية والدولار، فلولا الحرب الروسية الأوكرانية لكانت الصين هي الفاتورة الأولى التي سيتعامل معها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، إذ كانت هناك تجهيزات في موضوع حقوق الإنسان وفي الأقليات وخلخلة الداخل الصيني وهي مواضيع يجيد الغرب اللعب فيها، ولكن دخول روسيا على الخط أجّل أو خفف من هذه المواجهة، ولكن الولايات المتحدة الامريكية  والغرب لن يستسلموا بسهولة، فالولادة هنا ستكون عسيرة وحالة الصراع هي جزء من حالة الصراع الاقتصادي العالمي، وهذا ما يضع العالم أمام لحظة تاريخية ومفصلية.

العدد 1107 - 22/5/2024