فرنسا.. من التدخل الإنساني الى الاستعمار

فادي نصّار:

لم يستغرب قرّاء التاريخ، ما أورده الصحافي الفرنسي (جون كلود موريس)، في كتابه المعنون بــ(لو كررت ذلك على مسمعي فلن أُصدقه)، حين وصف كيف صُعِق الرئيس الفرنسي الأسبق (جاك شيراك)، في مطلع عام 2003، بعد أن أخبره (جورج بوش) الابن، في إحدى المكالمات الهاتفية، التي جرت بينهما على مدار عامين متواصلين (2002 و2003)، بمعدل مرتين يومياً، في محاولةٍ منه لحث فرنسا على المشاركة في الحرب على العراق، قائلاً: (إنَّ (يأجوج ومأجوج) مختبئان في الشرق الأوسط، قرب مدينة بابل العراقية القديمة، ويجب تدميرهما)، وأن حربه تلك مقدسة وبرعاية (العناية والإرادة الإلهية).

يضيف (موريس)، يومذاك قال (شيراك): (لم أصدق في حينها أن هذا الرجل بهذا المستوى من السطحية والتفاهة، ويحمل هذه العقلية المتخلفة، ويؤمن بهذه الأفكار الكهنوتية المتعصبة، التي سيحرق بها الشرق الأوسط، ويدمر مهد الحضارات الإنسانية).

بلاد السيد شيراك ذاته، كان لها اليد الطولى في دعم جبهة النصرة، وفي تشريع شراء النفط السوري المسروق، (يذكر ان وزير خارجية فرنسا الأسبق (لوران فابيوس)، أطلق مقولته الشهيرة: (إن النصرة تنجز شغلاً جيداً في سورية)، في اشارةٍ واضحةٍ منه الى أن النصرة تبيع نفطها الى الشركات الفرنسية العاملة في المنطقة ولا تتعرض لها، وفي مقدمة تلك الشركات تأتي (لافارج) عملاق إنتاج الأسمنت).

كذلك تعتبر فرنسا من الدول الناشطة جداً في مجال تجارة الأسلحة، إذ تظهر تقارير منظمة العفو الدولية أن 20 في المئة من صادرات الأسلحة الفرنسية بين عامي 2010 -2016 كانت الى المملكة العربية السعودية (اشترى النظام الملكي السعودي ما قيمته 9 مليارات يورو من الأسلحة).

ويتباهى ضباط فرنسيون بأن الأسلحة الفرنسية أثبتت جدارتها، في حرب السعودية على اليمن، في حين صرح الرئيس الفرنسي الأسبق (فرنسوا هولاند) لمؤلف كتاب (في كواليس الدبلوماسية الفرنسية) (كزافييه بانون)، (يفضح الكتاب تسليم فرنسا أسلحة الى الفصائل المسلحة الإرهابية في سورية) عام 2014 قائلاً: (لقد بدأنا عندما تأكد لنا أن الأسلحة ستكون في أيدٍ أمينةٍ.. وفي ما يتعلق بالأسلحة الفتاكة، فإن أجهزتنا قامت بعمليات التسليم).

فيما يضيف بانون (الخبير في الشؤون الدبلوماسية والعسكرية)، إن فرنسا سلمت مقاتلي المعارضة مدافع من عيار 20 ملم ورشاشات من عيار12.7 ملم وقاذفات صواريخ وصواريخ مضادة للدبابات.

ورغم كل ذلك لم تعترف فرنسا رسمياً حتى الآن سوى بتسليم أسلحة غير فتاكة وسترات واقية من الرصاص ونظارات ليلية، وهذا شيء طبيعي، فهذه الاستراتيجية اعتمدتها فرنسا قبلاً في (مالي) حيث سمحت بدخول الإرهابيين إليها وقامت بتسليحهم، ومن ثم اتخذتهم ذريعة لغزو مالي عسكرياً واستعمار البلاد.

كذلك أنكرت فرنسا، دورها القذر في الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في (رواندا) عام 1994 وأودت بحياة مليون رواندي، الى أن صدر كتاب (رواندا، نهاية الصمت؛ شهادة ضابط فرنسي)، لمؤلفه (غيوم أنسل)، وهو أحد ضباط (الفيلق الفرنسيّ) المشارك في عملية (تركواز)، فنقضت مرة أخرى الرواية الرسمية لـ(التدخل الإنساني)، إذ يؤكد (انسل) أن عملية (تركواز) بدأت كتدخل عسكري قبل أن تتحول إلى (عملية إنسانية).

دولة كـ (فرنسا) وهي الدولة الغربية الأولى، التي اعترفت بالكيان الصهيوني عام ١٩٤٩، وصاحبة الفضل الأكبر في بناء قوة إسرائيل النووية (مفاعل ديمونا مثالاً)، لأول مرة مع المستعمر الأمريكي (بخصوص الملف السوري) وهي تاريخياً دولة استعمارية (استباحت مالي، النيجر وتشاد، وساحل العاج وارتكبت جرائم فظيعة في الجزائر، الكونغو وهايتي).

ما يحدث اليوم في فرنسا يدل ظاهرياً أن هناك أزمات اجتماعية تغلي كالجمر تحت الرماد، بينما يتخفى وراء الأكمة أزمة جمهورية تلفظ أنفاسها، معركة إثبات وجود تعيشها فرنسا اليوم، وهي التي لم تعد فرنسا نابليون ولا حتى شيراك، وإنما بقية دولة استعمارية تختنق، تاريخها أسود، وحاضرها يقول: لا يحق لفرنسا بعد اليوم أن تشرح للعالم عن الحريات وحقوق الإنسان.

فهل نشهد في قادم الأيام، سقوط قصر فرساي؟ وهل سيدفن الشعب الفرنسي تاريخ بلاده الاستعماري في قبر نابليون؟!

مَن يعش يرَ.

 

العدد 1107 - 22/5/2024