بوتين وتبون.. نحو شراكة استراتيجية معمقة 

د. نهلة الخطيب:

في زيارة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى موسكو 13/6/2023، هي الأولى منذ تسلمه السلطة عام 2019، بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد جاءت هذه الزيارة في توقيت تشهد فيه العلاقات الجزائرية الروسية تقارباً ملحوظاً على المستويات كافة، وقع الزعيمان الروسي والجزائري سلسلة من الاتفاقيات تهدف إلى تطوير العلاقات والمبادلات التجارية في جميع المجالات الزراعة والصناعة والثقافة وتعميق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وشارك تبون كضيف شرف في أعمال المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبرج، وأكد في لقاء له مع رئيس الوزراء الروسي على متانة العلاقات بينهما قائلاً: (لدينا علاقات تاريخية ولا يمكن أن تتغير حتى لو تغير الوضع في العالم، نسعى لأن نصبح قوة في القارة الافريقية وقد بدأنا بالفعل في استعادة قوتنا الاقتصادية). وتأتي هذه الزيارة في ظروف صعبة مليئة بالتحديات والرسائل وتعكس رهانات مختلفة للبلدين، فما طبيعة هذه العلاقة وما إمكانية تحول الجزائر إلى حليف لروسيا ضد الغرب؟؟

تعيش الجزائر متغيرات وأحداثاً سياسية وأمنية صعبة فرضتها عليها بيئتها الداخلية منذ أحداث التسعينيات والمأزق السياسي بالداخل وأزمات جوارها الإقليمي، عبرت عنها الجزائر بمواقف متشددة وأحياناً مستفزة تجاه القضايا الخلافية، الأزمات التي يعاني منها دول الجوار ليبيا وتونس وعدم الاستقرار السياسي والأمني فيهما، تونس ومخاوف من انهيار اقتصادي وتزايد عدم الاستقرار في منطقة الساحل، المغرب وقضية الصحراء الغربية وفتح الحدود البرية الذي أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ سنة، إضافة إلى تطبيع المغرب علاقاتها مع إسرائيل وموقف الجزائر المؤيد والداعم للقضية الفلسطينية، وتجميد الجزائر علاقاتها مع إسبانيا بعد تصريحاتها بشأن الصحراء الغربية وانحيازها إلى المغرب عام 2022، إضافة إلى توتر العلاقات مع فرنسا مؤخراً، عقب تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا (رداً على إعادة مقطع إلى النشيد الوطني يتوعد فيه فرنسا): إنه تجاوزه الزمن)، الذي أثار سخطاً شعبياً ورسمياً كبيراً بالجزائر.

الجزائر كدولة مستقلة ذات سيادة سارعت منذ استقلالها إلى تبني سياسة خارجية تتسم بالواقعية وتحكمها المبادئ والأهداف الواردة في مواثيق ودساتير الجزائر والقائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإنعاش الاقتصاد على اعتبارها دولة ريعية تعتمد في إمداد دخلها القومي من عائدات صادراتها من الغاز الطبيعي والنفط، ومنذ تولي تبون السلطة في 19/1/2019 عمل على استعادة الجزائر لدورها الدبلوماسي في المساهمة بإحلال السلم والأمن الدوليين في جوارها الاقليمي، وأداء دور الوسيط في القضايا الإقليمية والدولية ولا سيما القضية الفلسطينية بعد أن شهدت الجزائر تراجعاً كبيراً لنفوذها في محيطها وخاصة المنطقة المغاربية وإفريقيا، تناوب على الدبلوماسية الجزائرية مراحل قوة وضعف وتعتبر فترة التسعينيات أسوأ مراحلها وما شهدته من موجة عنف واضطرابات اجتاحت البلاد عام 1991، استمر الوضع متأزماً بسبب الأوضاع السياسية الداخلية المتعلقة بنظام الحكم (بوتفليقة) وعدم استقرار أسعار النفط الذي يعد المصدر الرئيس للدخل وأحد عناصر قوة الدبلوماسية الجزائرية. الجزائر تعد دولة محورية في النظام المغاربي وأي تغيير في مشهدها السياسي الداخلي سينعكس تلقائياً على محيطها الإقليمي.

تسعى الجزائر إلى سياسة خارجية براغماتية المصالح تمكنت من تحقيق أهداف في شتى المجالات وخاصة السياسية والاقتصادية والثقافية، فالجزائر ليست بمعزل عن التغيرات والتقلبات التي تفرضها البيئة الدولية وخاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية وما أفرزته من اصطفافات وتجاذبات بين الأطراف الاقليمية والدولية وما لها من تأثير على السياسة الخارجية وفقاً لما تقتضيه مصالحها وأهدافها الوطنية في تحقيق أمنها واستقرارها الداخلي وتفعيل دبلوماسية وفق عقيدة سياسية خارجية جديدة، تحاول الجزائر فيها تحقيق توازن بين علاقتها مع روسيا في مرحلة ما بعد الحرب ورغبتها في اعتماد مبدأ عدم الانحياز على الساحة العالمية، ويشكل هذا الموقف في بعض الأحيان تحدياً لعلاقتها التاريخية معها منذ 60 عاماً، التي بدأت في ستينيات القرن الماضي بعيد حرب استقلال الجزائر عن فرنسا (1954-1962) وسعي الجزائر إلى الاعتماد على الاتحاد السوفييتي في بناء جيشها، ولاتزال هذه العلاقة الدفاعية والاستراتيجية الوثيقة مستمرة حتى اليوم، ففي عام 2002 كانت الجزائر إحدى الدول الخمس المستوردة للسلاح الروسي إضافة إلى تبادلات تجارية وصلت إلى أكثر من 3 مليارات دولار. ويعتد الجزائريون بالعلاقة مع روسيا ويعتبرونها قائمة على برنامج تعاون مشترك واسع النطاق وطويل الأمد، ويتمثل التحدي بموقف الجزائر من الحرب الروسية الأوكرانية فقد صوتت لصالح قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يعترف بعدوان روسيا على أوكرانيا بعد أن امتنعت عدة مرات على قرارات تخص الحرب، وجدير بالذكر أن الجزائر حصلت على عضوية غير دائمة بمجلس الأمن ستبدأ في حزيران (يونيو) 2024، ومن جهة أخرى كان للجزائر حصة الأسد من هذه الحرب بعد أن امتنعت دول أوربية من استيراد الطاقة الروسية عند فرض عقوبات اقتصادية عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي بفعل تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتعد الجزائر أكبر مورد للغاز الطبيعي لعدد من الدول الأوربية وخاصة لإيطاليا التي كانت تعتمد على الغاز الروسي بالمطلق، إضافة إلى موقفه من قوات فاغنر الروسية في مالي المزعزعة للاستقرار في حدودها الجنوبية.

شراكة استراتيجية معمقة ليست فقط تأكيد علاقات قوية تجمع روسيا والجزائر بل قد تكون هناك طموحات مشتركة تؤثر على خارطة التحالفات الدولية، وكذلك الوضع الاستراتيجي للجزائر في محيطها الإقليمي الذي يتسم بتوتر مع المغرب ومع دول أوربية، وتوجيه رسالة لهم أن لديها حلفاء لكل من يتربص بها من أعداء وخاصة اللوبي الصهيوني المغربي، وإلحاح تبون على التعجيل بالانضمام إلى مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا)، محاولة منه لترويج الجزائر كوجهة استثمارية ورسالة لرفض النظام الاقتصادي الدولي وإيجاد نظام أكثر عدلاً، من جهة أخرى تتمحور مصلحة روسيا في هذه الشراكة في أن تلعب الجزائر دوراً جيوسياسياً كبيراً في دعم المصالح الحيوية والاستراتيجية الروسية، وضمان التزام الجزائر بصفقة التسلح الذي يمد روسيا بموارد مالية مهمة في ظل العقوبات المفروضة عليها، ويرى محللون أن الجزائر لم تبتعد عن المعسكر الغربي وأنها تحاول إبقاء علاقة متوازنة مع الجميع وتحافظ على علاقتها بالغرب وأوكرانيا، وقد زار تبون إيطاليا والبرتغال قبيل زيارته لروسيا ووقع معها جملة من العقود لتزويدها بالغاز وتعويض الغاز الروسي.

وأخيراً قدم تبون مبادرة لتسوية النزاع الروسي الأوكراني لاقت القبول من الرئيس الروسي، وهذا ما يؤكد حيادية الجزائر في هذا الصراع ويعطيها قوة للعب دور الوسيط بين البلدين المتصارعين، ويتوقع أن هناك دولاً اقليمية سوف تؤثر على مستقبل العالم وبنية النظام الدولي القادم، وقد لا يكون تأثيرها بشكل مباشر ولكن عن طريق تحالفات وتكتلات مع دول أكبر منها فأي دولة تحت النفوذ مهما كانت صغيرة تدعم الدولة العظمى مثل البحصة التي تسند صخرة، ولكن شئنا أم أبينا بات هناك معسكران روسيا وحلفاؤها بمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، فنجد أن التحالف الاقتصادي لدول البريكس توازن ناعم ضد أمريكا والدول السبعةG7 وإن لم يكن له تأثير فعلي حتى الآن.

العدد 1107 - 22/5/2024