العلاقات الدولية ما بين الاحتواء وتحوّل الهيمنة

د. نهلة الخطيب:

بينما تتضاعف الأزمات الكبرى في جميع أنحاء العالم، المناخ، الطاقة، الصحة، الغذاء، الاقتصاد، حروب، مما يدعو إلى تعاون أكبر بين الدول من أجل استجابة عالمية، ويعتقد البعض أننا نشهد نهاية الأحادية في العالم، التنافس ما بين الصين والولايات المتحدة الامريكية الحريصة على الحفاظ على نفوذها وهيمنتها على العالم ووفقاً لنظرية (تحول الهيمنة) و(الاحتواء) التي رسخها جورج كينان كاستراتيجية للولايات المتحدة الامريكية في الحرب الباردة والتي تهدف إلى منع انتشار الشيوعية بالخارج، والتي بموجبها ستكون الولايات المتحدة في حالة تدهور في مواجهة وصول منافس جديد وهو الصين، ووفقاً لغراهام اليسون فإن الاثنتين قد بدأتا بالفعل تدخلان في مواجهة تبدو حتمية، في حين أن بكين وواشنطن تتصادمان بالفعل من خلال حروب اقتصادية وتجارية وتكنولوجية، فهل نتوقع مواجهة مسلحة بين الدولتين أوهي حرب باردة جديدة؟؟

هناك حالة إنكار في أمريكا أن العالم يتغير وأن هناك قوى جديدة تبرز على الساحة الدولية، أي الصين التي تنافس الولايات المتحدة اقتصادياً وتجارياً، وحتى على مستوى العلاقات الدولية، يتحدث بعض كبار المسؤولين الأمريكيين أن الحرب مع الصين قادمة لا محالة بحلول عام 2025، ولكن احتمال نشوب حرب بين القوتين على غرار الحرب العالمية الأولى أو الثانية غير مرجح إلى حد ما، إذ تعتمد الصين على التحول السلمي للهيمنة، أما الفرضية الثانية التي يبدو أنها آخذة في الظهور، فهي أن العالم مقسم إلى قسمين كما في فترة الحرب الباردة مع بُعد من المنافسة الاقتصادية ومعركة المعايير لتأكيد تأثيره والاحتكاكات المتعددة وهو ما نشهد بعض إرهاصاته في الوقت الحالي.

شهدنا مؤخراً اتفاق تفاهم لإعادة العلاقات بين إيران والسعودية توسطت فيه الصين، وهذا تطور كان مقلقاً جداً للإدارة الامريكية ومثيراً للريبة لأن الصين نجحت في تحقيق المسألة، فكانت زيارة بالغة الأهمية قام بها وزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن إلى المملكة العربية السعودية هي الأولى بعد الاتفاق استمرت ثلاثة أيام للتفاوض، بهدف توطيد العلاقات بين البلدين بعد سنوات من الخلافات العميقة بشأن التقارب مع إيران، والأمن الإقليمي، وأسعار النفط، واستبق الزيارة بدعوة إلى تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، والتقى بمسؤولين سعوديين كبار وولي العهد محمد بن سلمان، كما حضر اجتماع التحالف الدولي المناهض لـ(داعش) التنظيم الإسلامي في الشرق الأوسط.

وجدد بلينكين في خطابه أمام منظمة أيباك المؤيدة لإسرائيل، ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية في دعمها لإسرائيل، ووضع في الواجهة قبل زيارته للسعودية ملف انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، والتطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية داعياً السعودية وإسرائيل إلى الإقدام على هذه الخطوة وقال: (للولايات المتحدة مصلحة فعلية من أجل أمنها القومي في التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وأعتقد أن من واجبنا لعب دور أساسي لتحقيق تقدم في ذلك)، ورأى أن إيران تعد التهديد الرئيس لأمن الدولة العبرية، إذ قال (إن الدبلوماسية المثلى بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي).

وعشية زيارة انطوني بلينكن أطلق تصريحات شديدة اللهجة اتجاه ايران وطموحاتها النووية وترك الخيارات مفتوحة لعدم حصول إيران على السلاح النووي، وتضمنت التصريحات ثلاث رسائل رئيسية متميزة:

الرسالة الأولى كانت للمملكة العربية السعودية مهدداً بملف انتهاكات حقوق الانسان وبالأخص اغتيال الخاشقجي، ومفادها أن على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن يختار الاصطفاف إلى حلف روسيا والصين وإيران، أو يختار الحفاظ على علاقات ودية مع واشنطن من خلال التقارب السعودي مع إسرائيل، هذا هو الشرط للحفاظ على العلاقات مع واشنطن وربما شرط غير مباشر للحصول على النووي المدني الذي طلبه الملك السعودي من الأمريكيين.

الرسالة الثانية كانت لإسرائيل، إذ هدفت تلك التصريحات الشديدة تهدئة الحليف القلق من تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتحدث عن تسريع إيران لتخصيب اليورانيوم، وأنها وفق وول ستريت جورنال باتت قادرة على إنتاج قنبلة نووية في غضون أيام، بلينكن صعد اللهجة اتجاه إيران ليقطع الطريق أمام تحرك عسكري أحادي إسرائيلي ضد إيران، وأيضاً يريد تهدئة الإسرائيليين الذين يعلمون بوجود اتصالات غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الامريكية عبر وسيط من سلطنة عمان، زار إيران الاسبوع الماضي والتقى المرشد الأعلى الإيراني، والتفاوض على الحد الأدنى بين الطرفين لإطلاق ثلاثة أمريكيين محتجزين لدى إيران، وإن إسرائيل قلقة من خط التفاوض غير المباشر هذا بين الطرفين.

الرسالة الثالثة كانت لطهران، ومفادها أن واشنطن لن تتردد في استهداف طهران إن تطلب الأمر، وذلك تهديد مباشر وخاصة أن جو بايدن مقبل على انتخابات صعبة بحاجة إلى ممارسة سياسة التصعيد الاقصى ضد إيران لتسويقها للداخل الأمريكي، التصعيد الأمريكي يأتي أيضاً في سياق تقرير واشنطن بوست مطلع هذا الشهر، انطلاقاً من وثائق استخباراتية سرية تفيد بوجود تنسيق إيراني روسي سوري لطرد القوات الامريكية من شمال سورية وتمكين سورية من استعادة الأراضي التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية الكردية حليفة واشنطن، والتقرير يتحدث عن تزويد فيلق القدس لحزب الله بعبوات ناسفة خارقة للدبابات المدرعة لاستهداف القوات الامريكية وعددها 900 جندي، وقد تم إجراء تجارب عليها في منطقة الضمير شرق دمشق وهي من بين المواقع التي قامت واشنطن باستهدافها مؤخراً.

بالتزامن مع زيارة بلينكن، إيران تستعيد علاقاتها الدبلوماسية مع السعودية وتفتح سفارتها، إيران تريد الاستثمار في هذا التقارب السعودي من (محور بكين موسكو)، لتعزز ما بات يعرف بالتحالف جنوب_ جنوب ولتحبط استراتيجية إسرائيل في عزلها، هذا ما نجحت فيه من خلال عودة سورية إلى الجامعة العربية بمباركة سعودية، ومن خلال فتح سفارتها بالرياض وقنصليتها بجدة ومكتب ممثل إيران لدى منظمة التعاون الاسلامي. عينت طهران المعتدل علي رضا عيناتي  سفيراً لها في السعودية، وهو ذو خلفية دبلوماسية لا سياسية يتقن العربية وعلى دراية بدول الخليج وهذه رسالة على الانفتاح عليها، من جهة أخرى أعلن  قائد القوات البحرية شهرامي إيراني في الثالث من هذا الشهر عن إنشاء تحالف بحري يضم السعودية وقطر والبحرين والعراق والهند وباكستان لتعزيز الأمن المشترك في الخليج، الجهة التي نقلت هذه التصريحات قالت إن المسؤول لم يبين طبيعة هذا التحالف البحري، وبالتالي رسالة إيران هي المضي قدماً في سياسة صفر مشاكل مع دول الخليج، وتكون ورقة أخرى من أوراق الضغط الإيراني على الولايات المتحدة إلى جانب سياسة الحد الأدنى من التنازلات في الملف النووي الإيراني، والسعودية بين هؤلاء وأولئك، اختارت سياسة إمساك العصا من الوسط ضمن تحولها الاستراتيجي إلى عقيدة السعودية أولاً، لأسباب يطول شرحها هنا شعرت السعودية بأن الولايات المتحدة الأمريكية حليف لا يؤتمن، وبدأت التخطيط لإيجاد حلفاء آخرين فكان توجهها للشرق، ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية، اقتنص محمد ابن سلمان الفرصة لاتخاذ خطوات مناوئة للأمريكان، وبتبني استراتيجية صفر مشاكل مع دول الجوار، بدأت السعودية تكرس بداية لنهج جديد يتجه شرقاً وتحديداً باتجاه روسيا والصين.

قال دبلوماسي أمريكي مخضرم تشارلز فريدمان: (نحن لدينا مشكلة كبيرة جداً، نحن لم نعد نستخدم الدبلوماسية ولا القوة الناعمة، نحن ما نفعله الآن هو إما القوة أو التهديد باستخدام القوة أو فرض عقوبات والتهديد بفرضها وهذه تؤدي إلى ردود فعل سلبية)، فهل تكون من مخرجات الزيارة تحول جذري للسياسة الامريكية اتجاه المنطقة واتجاه السعودية بالأخص، ومحاولات أمريكية لاستعادة العلاقات مجدداً مع السعودية لكي لا تخسر الحليف السعودي رغم علمها بأنه لن تخسره تماماً بسبب حاجة كل طرف للآخر والعلاقة الاستراتيجية القديمة جداً بينهما لاسيما في مجال الدفاع والأمن، ولكنها ترى المحاولات الروسية والصينية لإحداث التقارب معها، والغرب الذي يتحدث عن بذل كل الجهود لاستمالة جميع الحلفاء إلى صفوفه ضد المعسكر الروسي الصيني، هل تضع الزيارة لمسات جديدة حول مبدأ التعامل مع السعودية كدولة إقليمية مهمة في منطقة الشرق الأوسط يكون لها لاحقاً دور كوسيط في الملف النووي الإيراني، وفي ملف العلاقات الإيرانية مع الغرب، وحل بعض الملفات الشائكة حول التدخلات الإيرانية في دول المنطقة، وبالتالي قد تكون السعودية جزءاً من الحل وليست جزءاً من المشكلة.

العدد 1107 - 22/5/2024