الأتراك من يصنعون رئيسهم

د. نهلة الخطيب:

الانتخابات في تركيا في مرحلة انتقالية مفصلية تضخ بالتفاصيل الإقليمية والدولية، هناك تخوف كبير من نتائج هذه الانتخابات على الوضع الداخلي وعلى علاقات تركيا الإقليمية والدولية، دول تحشد لفوز كليشدار أوغلو، وأخرى تحشد لفوز أردوغان والمحافظة على الوضع الذي أسس له، فما أهمية هذه الانتخابات وهل هي نهاية مشروع وبداية آخر؟ وإلى أين تذهب تركيا؟

حسب النظام الانتخابي التركي يجب أن يفوز أحد المرشحين بأكثر من 50% من الأصوات لكي يصبح رئيساً، وإلا ستعاد الانتخابات بعد أسبوعين في جولة انتخابية رئاسية ثانية. وقد حددت نتائج الانتخابات الأولية في تركيا في 14 أيار الجاري، التي شهدت كثافة إقبال تجاوزت 88،92% كدلالة على حساسية الصراع في الذكرى المئوية الأولى لقيام الجمهورية التركية، من سيتنافس بجولة الإعادة  الرئاسية في 28 من أيار الجاري لأن أياً منهم لم يتجاوز نسبة الخمسين بالمئة زائد واحد اللازمة للفوز في الجولة الأولى، وهما الرئيس رجب طيب أردوغان، وزعيم المعارضة كمال كليشدار أوغلو، إذ أعلن رئيس لجنة الانتخابات التركية نتائج الانتخابات غير النهائية بعد فرز جميع الأصوات، حصل أردوغان على أقل من خمسين بالمئة (49،5%)، أما كليشدار فحصل على (44،88%)، والمرشح الثالث سنان أوغان حصل على (5،2%) من الأصوات، بهذه النتائج ستذهب تركيا إلى جولة ثانية في انتخابات رئاسية لأول مرة في تاريخها لحسم السباق بين أردوغان وكليشدار أوغلو، اقتراع قد ينهي حكم أردوغان المستمر منذ عشرين عاماً وسيتردد صداه خارج حدود البلاد، وستحدد الشخص الذي سيدخل بتركيا مئوية جديدة، وسترسم السياسة الداخلية والخارجية والاقتصادية لتركيا خلال السنوات المقبلة.

مرة أخرى نجد الصراع على السلطة بين العلمانيين والإسلامويين، فطول تاريخ الجمهورية كانت هناك قيادتان تنافستا على قيادة الحكم في تركيا لكل منهما معارضة سياسية، وتوصف القيادة السياسية خلال الفترة من (1923-1983)، بأنها الكمالية نسبة لمؤسسها مصطفى كمال أتاتورك الذي أنشأ قوة سياسية جديدة وهيكلة جذرية للدولة، إذ أحل الصيغة العلمانية محل الصيغة العثمانية، ووضع هوية جديدة للدولة، وكانت المعارضة حينذاك الإسلاموية التي تمثل الشرقيين والمعادين للغرب، وكانت السياسة الخارجية لها متجهة غرباً مع تجاهل العالم الشرقي والمحافظة على الوضع الراهن وتقوم على رد الفعل، ويمكن ملاحظة التغيير داخلياً وخارجياً في فترة (1983-1993) فترة أوزال (التي اتسمت بحالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وأصبحت فترة فاصلة)، وفترة ما بعد 2003 إلى اليوم وتسمى فترة ما بعد الكمالية، وقد استخدمت كلمة جديدة في التعبير عن السلطة السياسية والمعارضة بسبب ظهور تغيير في المنظورات الرئيسية لكلا الجانبين، فقد أنهت الإسلاموية الجديدة التوجه المطلق إلى الغرب والكمالية الجديدة اتبعت نهجاً متشككاً تجاه الغرب والشرق.

بدأت حكومات حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان في بناء قيادة سياسية جديدة لتركيا، الذي بدأ رئيساً لبلدية إسطنبول عام 1994، ثم أسس حزب العدالة والتنمية مع عبد الله غول عام 2001 الذي يعد نفسه حزباً محافظاً ليبرالياً، وشارك في الانتخابات التشريعية عام 2002 وتولى منصب رئيس الوزراء ثم ترشح لرئاسة الجمهورية وفاز بالانتخابات الرئاسية عام 2014 و2018، كما ينظر إلى فوز أردوغان حينها، في فترة تركية حرجة للغاية، تتلخص عناوينها الرئيسية في كيفية معالجة تركيا علاقتها السلبية الراهنة مع الدول الجوار التركي، وشبه انعدام فرصة نيل عضوية الاتحاد الأوربي، إضافة إلى تراجع الدور التركي في المنطقة العربية، وبخاصة بعد سقوط أنظمة ثورات الربيع العربي، وأحزاب حركة الاخوان المسلمين في مصر وتونس، والفوضى العارمة الجارية في ليبيا، وكذلك الإشكاليات الصعبة التي تواجه الحركات والمجموعات الإسلاموية المسلحة في كل من العراق وسورية ولبنان.

وأبرز ما اتسمت به فترة رئاسة أردوغان للحكومة ولرئاسة الجمهورية هو السماح بارتداء الحجاب في الدوائر الرسمية وتعديل نظام الحكم من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي فتوسعت صلاحيات الرئيس على حساب السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأصبح يحكم تركيا بسلطات رئاسية كاملة بحيث يمكنه إعلان حالة الطوارئ وتعيين كبار موظفي الدولة وفصلهم، ويترأس أردوغان تحالف الجمهور الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وأحزاب أخرى أيضاً ويشارك الحزبان في الحكومة الحالية.

يدرك أردوغان التبعات السلبية للتعديلات الدستورية التي أقرها، كما يدرك حجم الصعوبات المناطقية والإقليمية التي تواجه تركيا، كذلك الإشكاليات التي تواجهها في سياق محاولتها تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوربي ومع جارتها الشمالية روسيا الاتحادية (التي تفضل فوزه لولاية ثانية) وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية. إذ لم تسفر سياسة تصفير المشاكل عن حلول إيجابية لهذه المشاكل، بل زادتها حدة وتعقيداً، وجاءت انتكاسات ما سمي بثورات (الربيع العربي) لتضيف تعقيداً جديداً إلى الحالة التركية القائمة.

أردوغان الذي حمل راية الإسلام للوصول إلى مبتغاه يواجه تعقيدات داخلية تتمثل في انقسام الشارع التركي انتخابياً ومدلولاته. وفي ظل الصعوبات اقتصادية كبيرة، بسبب من طبيعة سياساته مع دول الجوار التركي والمنطقة العربية عموماً. فضلاً عن ماهية التعاطي الأوربي التنافسي (دولاً واتحاداً) مع تركيا، وتوجهاتها في المنطقة العربية والآسيوية وبضمنها جمهوريات آسيا الوسطى (السوفيتية سابقاً)، العاملة على تقوية علاقاتها وروابطها مع روسيا الاتحادية. إضافة إلى انخراط عدد منها في روابط وتكتلات إقليمية وقارية، من الكومنويلث (رابطة الدول المستقلة لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق) إلى منظمة شانغهاي للتعاون الدولي، مروراً بمعاهدة الأمن والتعاون للعديد من هذه الجمهوريات السوفيتية السابقة.

ورغم عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (تعد قواتها المسلحة ثاني أكبر جيش في الحلف، وتنتج 80% من احتياجاتها من السلاح)، كذلك عضويتها في منظمة الدول الإسلامية، إلا أن هاتين العضويتين لم توفرا لتركيا مدخلاً لوضع خاص وهام في المنطقة، بسبب من طبيعة سياساتها اتجاه أحداثها ووجودها العسكري في سورية والعراق وليبيا، وكيفية تعاطيها مع تفاعلاتها وتطوراتها أيضاً.

مرشح المعارضة كمال كليشدار اوغلو وهو رئيس حزب الشعب الجمهوري، عمره (75) عاماً، وينتمي للتيار العلماني يطرح نفسه رجل الخلاص ويعتبر نفسه وريث فكر مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، انتخبته الهيئة العامة للحزب رئيساً له عام 2010، وكان قد انضم إليه عام 2002، شارك هذا العام في تأسيس حزب الأمة المكون من ستة أحزاب معارضة تعرف باسم الطاولة السداسية وهو مرشح التحالف للرئاسة.

أهم سياسات كليشدار أوغلو لمستقبل تركيا من حيث نظام الحكم والحريات أنه سيعيد نظام الحكم في تركيا إلى النظام البرلماني واستعادة منصب رئيس الوزراء وضمان استقرار المحاكم وتعزيز الحريات الصحفية، أما في التحالفات الدولية فإن كليشدار يرغب في العودة إلى مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وتعزيز العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة والانتقال من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي، إن صح القول، مع الاحتفاظ بعلاقات ودية مع روسيا والصين.

في الاقتصاد تخلت حكومة أردوغان عن السياسات الاقتصادية التقليدية، فارتفع التضخم مع إبقاء أسعار الفائدة منخفضة وانخفضت قيمة الليرة التركية مع تحسن الميزان التجاري وتعزيز الصادرات، أما كليشدار أوغلو فيريد العودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية المنضبطة واستقرار البنك المركزي سيؤدي إلى خفض التضخم.

أما في موضوع اللاجئين السوريين فيريد كليشدار إعادتهم إلى وطنهم في غضون عامين على أبعد تقدير، بينما سعى أردوغان إلى التخفيف من استياء الشارع التركي من الوجود السوري في تركيا وذلك من خلال وعده بالإسراع في العودة الطوعية لمليون سوري من خلال الاتفاق مع الرئيس بشار الأسد مؤخراً، وفيما يخص موضوع الأكراد سعى كليشدار إلى استمالة الأكراد علانية ووعد بالإفراج عن رئيس حزب الشعوب الديمقراطية السابق صلاح الدين ديمرتاش، والحزب أعلن بأنهم سينتخبون كليشدار أوغلو، واتهم أردوغان كليشدار بالاستسلام لابتزاز أجندة حزب الشعوب الديمقراطي والمسلحين الأكراد.

يحتدم الجدل السياسي قبيل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي قد تشكل علامة فارقة في تاريخ البلاد، الشعب التركي يريد التغيير ولكن ليس كليشدار أوغلو، وقد بدأ كل من المرشحين بحشد الأصوات في سباق انتخابي يزيده اشتعالاً: الوضع الاقتصادي الخانق، والزلزال، وقضية اللاجئين، يعتقد أنصار أردوغان أن فوزه لا ريب فيه، ففارق 4% بينه وبين منافسة يمنحه ارتياحاً نسبياً ورغم ذلك هو بحاجة إلى مزيد من الأصوات، أما المرشح الثاني فيبدو سقفه في الأصوات لن يرتفع وهذا هو الحد الاقصى للمعارضة، وإن كان يراهن على أصوات سنان أوغان إلا أن الأخير يبدو لديه شروط تدخل كليشدار أوغلو في مأزق يخسّره أصوات حزب الشعوب الكردي، والمفاجأة دائماً حاضرة.

العدد 1107 - 22/5/2024