ثقافي حلب : حوار حول آفاق الثقافة الوطنية في سورية

إعادة إعمار الثقافة الوطنية

أقام المكتب الثقافي للجنة المنطقية لحزبنا الشيوعي السوري الموحد بحلب ندوة حوارية بعنوان (حوار حول آفاق الثقافة الوطنية في سورية) بمناسبات يوم العمال وعيد الشهداء وذكرى النصر على النازية. وبغية متابعة إقامة احتفالية يوم الثقافة الوطنية التي واظب المكتب على تنظيمها منذ عام 2001 بذكرى السادس من أيار لانتماء شهداء هذه الذكرى للسمات التي أسست للثقافة الوطنية من ناحية، ولأنهم مثقفون مناضلون جمعوا بين الثقافة والتأثير الثقافي والنضال الاجتماعي السياسي.

وقد افتتح الرفيق وحيد سيريس الندوة موضحاً أن النص الذي سيقدمه المكتب ليس محاضرة، بل هي مساهمتنا في الإجابة على محاور ورقة عمل الندوة التي سبق أن وزعت على المدعوين أثناء توجيه الدعوات. وبالتالي فإن طموحنا في هذه الندوة هو إقامة شكل من الحوار حول موضوع الندوة الذي يحتاج إلى مساهمات الجميع.

قدم الرفيق هيثم الشعار رؤى فكرية حول مفهوم الثقافة أولاً، فقال: (تنوس الثقافة بين مضمونين، أولهما الإنتاج الثقافي بما يقدم من قيم الحياة الفكرية، وثانيهما: أنها مجموعة مترابطة من أنماط العمل والتفكير والشعور، تؤلف الأدوار التي تحدد السلوكيات المنتظرة، من مجموعة من الأشخاص وفقاً لمواقعهم في المجموعات الاجتماعية، تجاه المجتمع الإجمالي.

وهي تضم المعارف والمعتقدات والفن والحقوق والأخلاق والعادات والمهارات التي يكتسبها المرء بصفته عضواً في المجتمع).

ثم عرّف الثقافة الوطنية مشيراً أنه: (لا يعني وصف الثقافة بـ(الوطنية) في هذا التعريف، إطلاق حكم قيمة عليها أو وصفها أخلاقياً، إنما هو توصيف علمي سياسي اجتماعي، بأنها تختص بالوطن السوري. وبالتالي فالمستوى الوطني هنا يعني أنها الثقافة الإجمالية للمجتمع السوري وليست ثقافة الانتماءات ما تحت الوطنية).

مضيفاً: (لكن الانطباع الذي يؤديه هذا المصطلح (الثقافة الوطنية في سورية) على المستوى الأخلاقي القيمي لا يضر بالتعريف السابق، بل يضيف إليه، ما هو ضروري وجامع لدى أكثرية شرائح السوريين وأفرادهم).

وفي المحور الثاني (سمات الثقافة الوطنية في القرن العشرين) قدم تعداداً تكثيفياً لهذه السمات، موضحاً: (يحتاج هذا المحور إلى أبحاث كثيرة، ثقافية للإنتاج الثقافي، وسوسيولوجية وفق المضمون الثاني لتعريف الثقافة الذي قدمناه. لكننا هنا نمر على بعض السمات، ولا ندعي الإحاطة بها، إنما هو جهد قائم على الملاحظة والمتابعة يبتغي التوضيح وإثارة هذا الموضوع الهام في الساحة الثقافية الوطنية:

سمات الثقافة الوطنية في القرن العشرين

  • العلمانية على قاعدة (الدين لله والوطن للجميع) التي تأسست على الوحدة الوطنية وأسست لها.
  • النظر إلى الشعب بفئاته الفقيرة والكادحة على أنه قيمة وطنية.
  • التعددية بمعنييها: قبول الآخر، والانفتاح على كل الثقافات.
  • الإنسانية بمعنى النظرة الشمولية لكل التجارب الإنسانية وقضاياها واتخاذ موقف إيجابي منها.
  • النظر إلى المشاريع الإمبريالية والصهيونية على أنها عدوة، وتشكل الخطر الأساسي على مجتمعنا بل على مجتمعاتنا، أي على كل المنطقة والعالم.
  • اعتبار الصراع العربي – الصهيوني وقضية فلسطين قضية مركزية، ومؤشراً إلى الصح والغلط، وعلى الجمال والقبح.
  • التنوع في أشكال الإنتاج الثقافي، وثراء كل منها بالاختصاصيين والمهتمين والمتلقين وتداول الإنتاج الثقافي (الطازج) والدوريات السينمائية والمسرحية والتشكيلية والأدبية.
  • اعتبار الثقافة والمثقف قيمة وطنية، والافتخار به، وبما ينجز.
  • العلاقة الإيديولوجية بين الثقافة والأحزاب والتيارات السياسية، والثقافة كانت ساحة تنافس أساسية بينها، وأحياناً تناحر وصراع.
  • الميل للحداثة والأشكال الفنية المستجدة خلال القرن العشرين. مع احترام التراث ومحاولة البحث في كنوزه عبر التوفيق بين الأصالة والمعاصرة).

وقد أوضح أنه: (مرور سريع يحتاج لكثير من الجهد لتدقيقه وربما تعديله).

انتقل بعد ذلك إلى المحور الثالث (السمات اللازمة للثقافة الوطنية في سورية 2023)، فبدأ بتوضيح معرفتنا المسبقة بأن الموضوع ليس إرادوياً، لكننا نعتقد أنها مساهمة القوى الوطنية والمثقفين الوطنيين الواجبة عليهم، فعدّد من السمات اللازمة:

  • إعطاء مفهوم الوحدة الوطنية طابعاً (مقدساً)، وإعادة رسم صورته من زاوية التعددية وإيجابية العلاقة مع كل المكونات الاجتماعية في المجتمع السوري، مع إظهار خصوصياتها الثقافية واعتبارها عامل غنى وثراء للثقافة الوطنية.
  • إعطاء مفهوم الدفاع عن الوطن طابعاً (مقدساً)، وإعادة رسم صورة الجيش والقوات المسلحة كمؤسسة وطنية جامعة بعد أن حاول الإعلام المعادي تشويهها.
  • إعطاء مفهوم الشهادة في سبيل الوطن طابعاً مقدساً. مع وعيه كحاجة لكل المجتمعات التي تريد البقاء.
  • إعادة التركيز على قيم العلم والتعلم والتعليم، والحاجة للوعي الاجتماعي وللثقافة عموماً.
  • إعادة الربط بين الوطني والشعبي، بحيث تكون السياسات المدافعة عن المنتجين والكادحين هي السياسات الوطنية.
  • إعادة النقاش في تحرر المرأة وضرورة تعلمها وعملها ومساواتها بالحقوق والواجبات.. في ظل الأفكار الرجعية التي عادت للهيمنة عبر الثقافة التكفيرية وهالاتها المحيطة.
  • التركيز على مفاهيم المواطنة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص أمامه، وإعطاؤها قيمة أخلاقية عصرية لا تستوي الحقوق والحريات من دونها.
  • إعطاء مفهوم الحوار اهتماماً خاصاً وتوضيح مضامينه عبر التعددية وقبول الآخر والانفتاح على الآخر الوطني.
  • التركيز على الحداثة وتقديم الجديد، مع إعادة ترميم التراث (ليس في العمارة فقط).. واعتبار كل من المنحيين متكاملاً مع الآخر في غير تناقض، وأن الحفاظ على الذاكرة الحضارية لا يعني رفض الجديد والعصري. في توجه يعكس رفض الثقافة النيوليبرالية وما تحمله من خواء وتفريغ للقيم الوطنية وخصوصيات المجتمعات.
  • إعادة قراءة التاريخ القريب والبعيد بصورة علمية نقدية موضوعية بما يفيد الأجيال الجديدة بوعي موقعها بين الأمم والشعوب، كما هو دون تكبير ولا تصغير).

وبيّن أن: (هذه السمات مبنية على نوعين من المهام اللازمة اليوم:

أ – مهام استكمال التحرر الوطني ب – مهام استكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة

مما يعطي لسمات الثقافة الوطنية 2023 ملامح متداخلة من الوطني والطبقي والديمقراطي، وهما يتكاملان عبر أولويات ترميم النسيج الوطني السوري، اللازم لمشاريع إعادة الإعمار على المستويات العمرانية والاقتصادية.

في سمات الثقافة الوطنية اليوم مستويان تتحرك بينهما، المتحقق بالفعل، والمتحقق بالقوة.. وحتى المتحقق بالفعل لا يمكن اعتباره منجزاً تاماً وإلا بات منتهياً لا حاجة له، لذلك فليس الوجود أو التحقق هنا بين 1 و0، وإنما وجود موضوعي متعين بالمكان والزمان، بالفرد والمجموعة الاجتماعية التي ينتمي لها، وليس إما وجود كامل أو عدم شامل.

ليست الثقافة الوطنية معطى منجزاً فقط، إنما هي تطلّع أيضاً.. وفي تعداد السمات التي وسمتها في القرن العشرين أو التي نعتقد أننا نحتاجها اليوم، نوسانٌ بين المنجز التام منتهي آفاق التطور، والمنجز غير التام المحتاج للاستكمال، ففي الثقافة لا يكتمل المعنى، مهما تقدمت درجة الإنجاز، لأن ما ينجز يتبخر وما يرفع لأعلى يعود ليتدحرج هاوياً لأسفل الوادي.. فهو عمل سيزيفي، ما استمر الواقع في تغير، وما استمر الوهن يضرب ميزان العدالة الاجتماعية).

افتتح بعدها الحوار الذي شارك فيه أكثر الحضور الذين نعتذر منهم سلفاً بسبب الاختصار الضروري لمداخلاتهم لأسباب صحفية محض.

اختلافية ولا يمكن فرضها فرضاً

بدأ أ. محمد دلي (فرع حزب الوحدويين الاشتراكيين) بالمساهمة الأولى التي قدم فيها تعاريف عدة للثقافة، وميز بين الخصائص والسمات واصفاً خصائص الثقافة بأنها إنسانية – مكتسبة – تراكمية – قابلة للتطوير – مجردة – واختلافية ولا يمكن فرضها فرضاً. أما السمات فوصّفها بأنها: راسخة – تعبر عن هوية – لها قواعد – تقليدية – عامة – تكاملية.

ارتباط الثقافة باستقرار الحياة الاقتصادية

وذهب الفنان الأستاذ غسان دهبي إلى أن الثقافة بأشمل معانيها هي ثقافة الحياة، السلوك والممارسة الاجتماعيان. والثقافة مرتبطة باستقرار الحياة الاقتصادية للفرد أو الأسرة أو المجتمع.

ثقافة للبناء وأخرى للهدم

أما الرفيق أحمد سجيع (عضو اللجنة المركزية) فقد استعاض عن الإجابات بطرح أسئلة رأى إمكانية – بل ضرورة –  طرحها، مثل:

(الآن أليس هناك ثقافة الرجوع إلى الوراء قسراً عن الواقع الحالي؟ كما أن هناك ثقافة التطلع إلى المستقبل انطلاقاً من الحاضر.. أليس هناك ثقافة تخطط للهدم كما ثقافة تخطط للبناء؟

الآن أليس هناك جهد لتهميش الثقافة وجهد لنشر ثقافة التهميش؟). ووضح أن الإجابة عليها بنعم لا تكفي، وأن (الثقافة الوطنية تبقى اهتماماً أساسياً لدى الكثير من العقول النيرة. وهذا ما نأمله من لقائنا هذا).

ما إمكانية من تبقى من المثقفين العضويين تقديم بديل لمشروع ثقافي؟

الناقد السينمائي والباحث الفني الأستاذ فاضل الكواكبي اعتبر أن الأهم هو توصيف واقع الثقافة الحالي في سورية بالإشارة إلى العلاقة الديالكتيكية بين الأوضاع السياسية والاقتصادية وبين واقع الثقافة: (الآن هناك استعصاء حقيقي له علاقة بأن الحرب التي طالت، وأظهرت كماً هائلاً من الإشكاليات المتراكمة عبر السنين، بالمعنى الثقافي والسياسي والاقتصادي، لم تؤول إلى نتائج، فالآن هناك شرخ أفقي وعمودي بين الفئات والطبقات، بين المناطق، بين الداخل والخارج) ووضح أن ما يبدو من استتباب من الناحية السياسية تعطي انطباعه التقاربات الأخيرة، هو ذو طابع تسكيني، وهو (إرجاء الإشكال أو انتهاء الشكل العنفي للإشكال. ولا أحد لديه تصور للمستقبل. فأمامنا فترة استقرار، لكنه استقرار شكلي لا يلغي التناقضات ولا يطرح مشروعاً للبناء).

وفي إطار توصيف فداحة الواقع الثقافي في هذه المرحلة فقد اعتبر أنها (أسوأ فترة مرت على سورية من الناحية الثقافية منذ الاستقلال 1918.. لا يوجد صحف.. لا يوجد مجلات.. لا يوجد قراء.. ولا مكتبات.. لا إنتاج ثقافي ولا إبداع فني.. لا يوجد سجال فكري ولا سجال سياسي). ولم يقبل الباحث بذرائع الوضع المعيشي الصعب جداً، ولا بسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي. بل اعتبر أن المواطن يلجأ لهذه الوسائل لأنه لا توجد بدائل ولأن المناعة الثقافية لم تسعفه.. وسأل: (ما إمكانية من تبقّى من المثقفين العضويين أو النقديين أن يطرحوا مشروعاً بديلاً؟ لن يتبناه أحد.. وعلينا نحن تبنيه ومحاولة تعميمه.. لا مصلحة إلا للمثقفين الوطنيين في تبني مشروع ثقافي وطني بديل والعمل على تعميمه).

نحتاج إلى خطوات عملية ولا يكفي التنظير

فيما ذهب الأستاذ زياد بصمه جي (أمين سر مكتبي المهن العلمية والثقافة في حزب الوحدويين الاشتراكيين) إلى أن (الثقافة الوطنية عنوان كبير تتعدد مفاهيمه بما ينشد تصحيح الواقع الذي نعيشه بكل أشكاله سياسياً واقتصادياً واجتماعياً تطلعاً إلى الأفضل بجهد النخبة المثقفة الغيورة على الوطن والمواطن). وبيّن أن (المواطن هو البداية.. والوطنية التي جاءت بها الدساتير هي مصدر تأكيد حقوق المواطن لتضعه في طريق الوطنية). وأضاف: (لقد تجاوزنا مرحلة السكوت عن القهر والظلم ووصلنا إلى مرحلة الشعور به والعمل على رفضه وهذا يدفعنا جميعاً إلى التصحيح والتطوير وتحمل المسؤولية). وأشار إلى تلازم إعادة إعمار الإنسان مع إعادة الإعمار بمفهومها العمراني والاقتصادي، بسبب جنوح البعض لثقافة عدائية إجرامية. واعتبر مع ضرورة الانفتاح على الآخر أن (البعض سار في الطريق الخطأ حين اعتبروا أن هجومهم على المؤسسات من مجلس الشعب إلى النقابات والاتحادات هو رأي آخر.. فيما هو لا يعبر إلا عن تصرف أحمق ولا يمت بصلة للرأي الآخر ولا للثقافة الوطنية).

الدفاع المطلق عن الحرية الكاملة للوطن والديمقراطية الحقيقية لأبنائه

أما الرفيق فريد محمد (المكتب الثقافي المنطقي – الحزب الشيوعي السوري) فقد قدم مساهمة متكاملة باسم المكتب الثقافي مشيراً إلى أهمية موضوع الثقافة الوطنية في مواجهة (السيطرة شبه الكاملة على وسائل الإعلام والاتصالات تحت لافتة الثقافة العالمية أو الثقافة المتعولمة).

مقدماً بتعريف الوطنية على أنها (الدفاع عن الوطن وعن التراث والثقافة). وفي ماهية الثقافة اقتبس عن عميد الشيوعيين العرب الرفيق خالد بكداش (إن أحسن المحسنين إلى البشرية فيما تلاقيه من عذاب وآلام هم الموسيقيون، والشعراء، والروائيون والقصصيون) مستنتجاً أن (الثقافة هي نتاج اجتماعي اقتصادي تتوارثه الأجيال، وتضيف إليه بما يتناسب مع تطور المجتمعات). وفي معرض التمييز بين الثقافة الوطنية واللاوطنية اعتبر أن علينا (أن نعرف مفهوم الوطنية أولاً، والتي تتجلى بحسب المفاهيم الماركسية اللينينة والشيوعية الحقة، في الدفاع المطلق عن الحرية الكاملة للوطن والديمقراطية الحقيقية لأبنائه. وأن معنى الحرية الكاملة هو الدفاع عن حدوده الجغرافية وصيانة قيمه التاريخية وحضارته وهذا لا يعني مطلقاً الانغلاق والتحجر حيال القيم والتاريخ لحضارات الآخرين).

وفي المحور الثاني اعتبر أن (أهم ما يميز الثقافة الوطنية خلال القرن العشرين كان يدور حول الحرية والتحرر من الاستعمار واستحضار الذاكرة الوطنية عبر التاريخ من أجل تحفيز جيل المرحلة وتتغنى بالإنجازات التي كانت تنجز في حينها).

في المحور الثالث رأى أنه (من الضروري أولاً العودة إلى التراث الوطني والتقدمي في تاريخ الوطن وما أكثرها.. ثانياً محاربة الثقافة العبثية لعصر العولمة وتوضيح أثرها على المفهوم القيمي والحضاري للشعوب وإبراز وإحياء الرموز الثقافية والوطنية والتقدمية في تاريخ شعوبنا.. ثالثاً التعلم على فهم وقبول الآخر مع الوقوف على الأخطاء والثغرات).

ثم قدم ما يراه مهامّ من أجل إعادة الثقافة الوطنية وإحياء عناصرها، فوجد ضرورة (العمل الجاد من أجل توعية جيل الشباب على مخاطر الإعلام والثقافة المتعولمة  واللاوطنية.. إن الوضع الراهن يتطلب أوسع تضامن بين جميع القوى المناضلة من أجل الحرية والتقدم.. اليقظة فيما يرفع من شعارات حول حقوق الشعوب والإنسان.. زيادة التركيز على فضح الدور التخريبي والمزيف للحقائق والذي تلعبه أجهزة الإعلام والثقافة البرجوازية).

وأنهى الرفيق مداخلته بأهمية هذه الفعاليات الثقافية بأنه (يمكن أن تلعب اللقاءات والندوات المختلفة دوراً إيجابياً في هذا المجال، مما يتطلب تنشيط وتكثيف هذه النشاطات من قبل القوى الوطنية والتقدمية وعناصرها العاملة في مجال الفكر والثقافة).

مع ملاحظة ضرورة عدم التركيز على مفرزات الأزمة، بل الانتباه لأسبابها السياسية والاقتصادية والتدخلات الخارجية. وأن كثيراً من الظواهر التي نراها هي مفرزات وليست أسباباً جوهرية. فما عساها تفرز الحرب؟!

القناعة التامة والحرية التامة عاملان أساسيان

وكان للأستاذ جيراير رئيسيان (المربي وعضو مجلس الشعب) مساهمته الهامة التي اعتبر فيها الثقافة معياراً لحضارة الشعوب. وقسمها لجزأين: (الثقافة المفروضة والثقافة المبنية على قناعة المتلقي). واعتبر أن كل شعب يحب أن يمتلك مستويات ثقافية عالية. وسأل: (كيف يمكن أن نصل إلى الثقافة التي لا تأتي بالتلقين)، مشيراً إلى أمر ضروري في التربية وهو: (أننا يجب أن نرسخ ونطور لدى الفرد كبيراً أو صغيراً إمكانية التوصل لتكوين الآراء والمعتقدات وطرائق السلوك، لتكوين الإجابات، عن أسئلة مثل: لماذا أحب هذه الأرض؟ لماذا يجب أن أتصرف بهذا الشكل أو ذاك؟ ما الذي يجعلني أحب هذا البلد؟) وأجاب: (يجب أن يكون لدى الفرد جواب.. ودون أن يكوّن هو بنفسه هذا الجواب.. النتيجة هي فقط التلقين: (هيك قالولي..). ولا تتطور الثقافة إذا لم تتوفر لدى الفرد.. ولدى المبدع القدرة على المنطق التحليلي للوصول إلى الجواب بنفسه دون أن يفرض عليه ودون أن يتم تلقينه إياه تلقيناً.. ما هي الإيجابيات وما هي السلبيات في هذه الظاهرة أو تلك؟) وأضاف أنه (يجب توفر عاملين: القناعة التامة والحرية التامة) وتوصل إلى استنتاج هام أن (الفرد عندما يختار بقناعته وبحريته من السلوك والمعتقدات وكل ما يكوّن ثقافته، فإنه سيعطي كل شيء حتى حياته ودمه وفكره.. وهذا لا يأتي إلا بالتحليل المنطقي للوصول بنفسه إلى القناعة التامة وبالحرية التامة).

ما موقع الفكر التكفيري وتأثيره الهدام من الثقافة الوطنية؟

 وقد ابتدأ الرفيق خالد حريري مداخلته بتوجيه التحية والتقدير لقوى المقاومة الوطنية في فلسطين الأبية بمواجهة الغطرسة الصهيونية. وبدأ مساهمته في الحوار بسؤال: (هل الفكر التكفيري جزء من ثقافتنا الوطنية؟).

 وقدم عرضاً تاريخياً لمراحل من تغيرات الفكر العربي الإسلامي مع إبقاء السؤال مفتوحاً دونما إجابة بانتظار إسهامات الباحثين في تاريخنا الغني بالسجالات الفكرية التي وصلت بعض تياراتها إلى تكفير كل الآخرين.

مساهمات الأحزاب والجمعيات الثقافية لا تكفي

كما شارك الأستاذ عصام عزوز الذي قدم نفسه كمثقف سوري قومي اجتماعي مستقل وبدأ مساهمته بأن (الفرد حصيلة مجتمعه، فالثقافة تتطور بتطور المجتمع. وبرغم كل الخراب والخواء الذي تترابط عوامله ببعضها، إلا أن مساهمات الأحزاب والجمعيات الثقافية لازمة لتطور المجتمع).

وعاد لبدايات القرن العشرين ليوضح أن الثقافة الوطنية وقتها كانت تعني الثقافة السورية والوحدة السورية بمجابهة مجنزرات الاحتلال الفرنسي التي أسقطت نتائج المؤتمر السوري الأول الذي جرى إهماله طيلة المراحل السابقة. وسأل: (كيف انتقلت الهوية السورية الجامعة لهوية الجمهورية العربية السورية وهي ناتجة عن اتفاقية سايكس – بيكو، خاصة أن كل القوى الوطنية وقتذاك أجمعت على الهوية السورية) مستشهداً ببرنامج الحزب الشيوعي السوري وبروغرامه الصادر عام 1931.

كما مر على ظاهرة الاستبداد التي تطبع التاريخ العربي الإسلامي وما تركت من ظلال على ثقافتنا، مشيراً لثقافة التعفيش ومرجعيتها التاريخية في ثقافة الغنيمة. وأكد ضرورة المكاشفة وضرورة الحوار الوطني الذي يحضره الجميع وفي بداية القائمة أصحاب القرار الذي لن تثمر الحوارات دون حضورهم.

الخطر على الدولة الوطنية هو الخطر على الثقافة الوطنية

وقد ذهب الأستاذ باسل قس نصر الله (مستشار مفتي الجمهورية السابق) إلى (أن الثقافات الدينية والمذهبية والعشائرية تظهر أكثر وضوحاً – بعد بداية الأزمة – من الثقافة الوطنية، ذلك أن كل جماعة مذهبية للأسف تعيد بناء هويتها الوطنية بناء على هويتها الشخصية، نتيجة ضعف الدولة وتراخيها تجاه هذه الثقافات.

وأضاف: (يجب التنويه أن أخطر تحدٍّ تواجهه الدولة الوطنية هو التحدي الذي تواجهه في ثقافتها. التي لا يمكن أن تنتج بالشعارات الوطنية ظاهراً).

لماذا دمّر ابن هذا البلد بلده؟ التركيز على العدو الرئيسي هو الحل

أما الرفيق محمد هواري (من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) فقد ذهب أبعد. فعبّر أنه كان يود أن يسمع عن استخلاصات الأزمة الثقافية، مقدماً أسئلة تحتاج للبحث وللإجابة: (لماذا دمّر جزء من المجتمع بلده؟ ابن هذا البلد لماذا دمر بلده؟ لماذا قتل جاره أو قريبه؟ بالتالي هل كنا نمتلك ثقافة وطنية نخبوية أم مجتمعية؟!). ورأى أن الموضوع يبدأ من العائلة.

وفي سمات الثقافة الوطنية في القرن العشرين رأى أنها سمات كل الثورات التحررية على مستوى العالم في كل البلدان.

وسأل: (كيف نحصن أولادنا والأجيال الجديدة من الجوانب السلبية للعولمة وثورة المعلومات والاتصالات؟ ليس ضد العلم بل للمحافظة على ثقافتنا الوطنية).

وأضاف: (ونحن كشعب فلسطيني نعيش اليوم الذكرى 75 للنكبة.. 75 عاماً وبلدنا محتل.. لدينا ثقافة وطنية ولدينا ثقافة وسطية ولدينا ثقافة انهزامية، إذاً لدينا ثلاث ثقافات على الساحة الفلسطينية). وعرض تاريخ الثقافة الوطنية الفلسطينية وتغيراتها ودخول ثقافة جديدة غريبة على التناغم الذي كان سائداً في الثمانينيات بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني. وبيّن أنها الثقافة الإخوانية التي بدأت بحرق مقرات الأحزاب ونواديها الثقافية باسم التكفير والإلحاد.. (لكنها لم تستطع تكوين جماهيريتها إلا بدخولها على خط الانتفاضة ومقاومة المحتل الصهيوني، فتمكنت من اختراق الصف الوطني والثقافة الوطنية دون أن يبدوا اتجاههم التكفيري حتى سحبوا كمّاً لا بأس به من شعبنا الفلسطيني. لكن لم نصل إلى الاقتتال وقتل بعضنا وبقيت البوصلة الوطنية والثقافة الوطنية أساساً يبرهن دائماً على وجوده برغم ثقافة التقسيم التي تنتهجها حركة حماس في كل مكان. ووضح أن مجابهتها لم تنجح إلا باعتماد ثقافة التركيز على العدو الرئيسي العدو الصهيوني).   

المواطنة والدستور المدخل الأهم في إعادة البناء

وقد قدم مدير الحوار الرفيق وحيد سيريس مساهمته كمشارك مركزاً على أهمية الدساتير في بناء الدول، مشيراً إلى الأزمة السورية وما ظهر من ممارسات دالة لتراجع في الثقافة الوطنية وضرورة دراسة مسببات ذلك، وأن الحل يبدأ من الثقافة الوطنية التي يجب أن تؤسس لأفكار المواطنة والانتماء انطلاقاً من الدستور وحياديته تجاه المعتقدات والإيديولوجيات المختلفة.

فالدستور للدولة أي لكل الشعب، وليس لقسم منه مهما كان أكثرياً والأمثلة تبدأ من المواد المتعلقة بالدين ولا تنتهي عندها، في هذه الإشارات لضرورة الانطلاق لإعادة بناء الثقافة الوطنية الجامعة لكل السوريين.

الأسئلة الضرورية لمشروع إعادة بناء الثقافة الوطنية في سورية

في نهاية الندوة قدم الرفيق هيثم الشعار مداخلة نهائية حول المحور الرابع من ورقة العمل المعني بالأسئلة اللازمة لمشروع إعادة بناء الثقافة الوطنية، وهي مداخلة تمهيدية للحلقة الثانية من هذا الحوار بالأسئلة المقترحة التالية لكيلا تبقى الطروحات تنظيرية منبتّة عن الواقع (سورية 2023):

أ – من هي الشرائح المستهدفة من مشروع إعادة إعمار الثقافة الوطنية؟

ب – ما هي أهداف المشروع التفصيلية (أجندته ومفرداتها)؟

ج – من المسؤول عن التنفيذ؟

د – ما هي الأرضية القانونية – السياسية للمشروع؟

ه – ما هي آليات التنفيذ؟

و – ما هي طرق قياس النتائج؟        

العدد 1104 - 24/4/2024