التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة ومكافحة بؤر الإرهاب والتطرف

بشار المنيّر:

بعد 11 عاماً من عمر الأزمة السورية التي تسببت بها عوامل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية، وعوامل خارجية ظهرت بالحرب الظالمة التي أشعلتها قوى التحالف الدولي المعادي لسورية بزعامة الولايات المتحدة، وبعد الصمود الأسطوري لشعبنا في مواجهة هذه الحرب الإرهابية، وإنجازات الجيش السوري في تحرير العديد من المدن والمناطق من سيطرة المنظمات الإرهابية، وبعد تقدم الجهود السلمية لحل الأزمة السورية عبر الطرق السياسية، تتضح اليوم أكثر من أي وقت مضى مخاطر الفكر الإرهابي.. الإقصائي، الذي وجد في بيئات محددة مناخات ملائمة لانتشاره، مستغلاً تهميش الدولة لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.. المتوازنة، التي تعمل على تطوير المناطق المتخلفة.. والأقل نمواً، وتؤسس لوعي مجتمعي منفتح.. متطور، وتدمج سكانها في العملية الاقتصادية والاجتماعية الجارية في البلاد، مؤكدين بداية استحالة تحقيق أي تنمية حقيقية في البلاد دون نجاح الجهود السياسية في إنهاء هذه الأزمة.

إن الفقر.. والتهميش الاجتماعي، وفقدان الشعور بالعدالة لدى أوساط الجماهير الفقيرة، بسبب عدم تنمية المناطق المتخلفة، ودمجها في النشاط الاقتصادي المنتج، تشكل المناخ المناسب لنمو الفكر الإرهابي.. وبث الروح في الحركات المتطرفة، التي تلجأ إلى استخدام العقائد والأديان بسبب غياب الوعي المجتمعي أو ضعفه، والتي تعتمد في كثير من الأحيان على إثارة النعرات الدينية والطائفية، وهذه حقيقة برهنتها حروب صغيرة وكبيرة.. وحوادث سجلها التاريخ، قديمه.. وجديده. في الماضي القديم، استغلت الدول الاستعمارية الجمهور المهمش تحت راية الدين في حروبها الإلحاقية، في الحاضر، لجأت هذه الدول إلى تغذية مشاعر التطرف الديني في العديد من البلدان في آسيا وافريقيا، مستغلة غياب التنمية المتوازنة، للمحافظة على نفوذها واستغلالها لشعوب هذه البلدان.

عَرّف إعلان (الحق في التنمية) الذي أقرته الأمم المتحدة في عام 1986 عملية التنمية بأنها (عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المستمر لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية).

لقد اندثر النموذج الغربي للتنمية الذي أسسته الرأسمالية الأوربية متأثرة بوجود الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية، الذي قام على  مفهوم السوق وآلياته من جهة، وتدخل الدولة وهيئات المجتمع المدني من جهة ثانية، والذي أنتج تنمية اقتصادية واجتماعية مطعّمة بقوانين العدالة الاجتماعية  في أوربا الغربية، وسادت بعد ذلك مفاهيم الليبرالية الاقتصادية الجديدة منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، والتي اختزلت عملية التنمية في البلدان النامية باتجاه وحيد، هو السوق الحر من كل قيد أو تدخل أو توجيه من قبل الحكومات، وعملت الولايات المتحدة والصناديق الدولية على تصدير هذا النموذج مستغلة حاجة الدول الاشتراكية سابقاً، والدول النامية الأخرى، إلى إعادة هيكلة اقتصاداتها بعد انهيار الاشتراكية، لكن هذا النموذج فشل في تحقيق تنمية اقتصادية فاعلة في مجموعة من الدول، وصار لزاماً على الدول الفتية الساعية إلى تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية البحث عن مخرج لتخلفها الاقتصادي والاجتماعي بانتهاج اقتصاد مختلط تندمج فيه آليات السوق مع  التخطيط للتنمية الاجتماعية، أي مشاركة الرأسمال الخاص وقطاع الدولة في توليد فرص جديدة لزيادة الدخل الوطني، عن طريق تشجيع الصناعة والتجارة والاستثمار، والحفاظ على قطاع عام اقتصادي فاعل، وقيام الحكومات بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الناتج  بين الفئات الاجتماعية عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً كالتعليم.. والضمان الاجتماعي.. والصحي.. وتنمية المناطق المتخلفة، واستهداف بؤر الفقر، تلك المهام التي لا تدخل في برامج القطاع الخاص وخططه.

وبعد الانهيار الكبير الذي ضرب قلعة الرأسمالية العالمية في 15/9/ 2008، وتلاشي مفاهيم الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي تسببت في هذا الانهيار، عادت الحكومات في الدول الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى تفعيل دور الدولة في الحياة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية، وظهر بشكل جلّي أهمية إشراك منظمات المجتمع المدني في اتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية، بعد سنوات من تفرد الأسواق المالية والمصارف الاستثمارية.

 

سورية والتنمية

رغم الإنجازات الاقتصادية.. والتطور الاجتماعي النسبي الذي حصل في سورية خلال العقود الأربعة الماضية، لكن الحقيقة المائلة أمام الجميع هي عجز الدولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، هذا العجز أصبح جلياً بعد سنوات من دفن الرؤوس في الرمال، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، كذلك لم يتصدَّ القطاع الخاص لتنفيذ خطط التنمية لأسباب تتعلق  بسياسات التخطيط الحكومي المركزي، التي همشت مبدأ الشراكة مع الرساميل الوطنية حتى بداية تسعينيات القرن المنصرم، وأيضاً بسبب سعي القطاع الخاص (المحدود) الدائم نحو  جني العوائد الاستثمارية والأرباح من جانب، وعدم اكتراثه بالأهداف الاجتماعية لهذه التنمية من جانب آخر.

 

التنمية بعد عام 2000

إن تبني الحكومات المتعاقبة في سورية منذ عام 2000، لسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، تحت مسميات مختلفة (إعادة الهيكلة.. الانفتاح.. السوق الاجتماعي) أدخل تغييرات عميقة على بنية الاقتصاد الوطني، إذ جرى تشجيع قطاعَيْ المال والتجارة، والانفتاح على الخارج قبل تمكين قطاعات الإنتاج المحلية، وهمشت الصناعة الوطنية، وخاصة القطاع العام الصناعي، والزراعة والخدمات الشعبية. وجرى التراجع عن بعض المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة. وكحصيلة لهذه التحولات، تعمق الفرز الطبقي، ونمت رأسمالية طفيلية جشعة، تدعمها بيروقراطية حكومية، وتجذّر الفساد بسبب الإحجام عن اتباع سياسات واضحة لمكافحته. وبنتيجة كل ذلك عمّ الاستياء الشعبي، الذي استثار الجماهير الكادحة، التي رفعت مطالب جرى الإقرار بصحتها وعدالتها، وبضرورة القيام بإصلاحات سياسية، وأخرى اقتصادية، ترمي إلى معالجة الأزمة بجميع تجلياتها وعواقبها.

لقد تبين بشكل جليّ أن رؤية بعض مسؤولي الاقتصاد السوري في الحكومات السابقة -الذين لم يجدوا معارضة لسياساتهم في مراكز القرار السياسي والحزبي- لا تسعى إلى تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، تُحدث نقلة نوعية في حياة السوريين، في الزمن الذي اتسم بالتحولات العاصفة وثورة المعلومات وعولمة الاقتصاد بهدف تحقيق هيمنة الإمبريالية العالمية على مقدرات الشعوب. بل تسعى إلى الاكتفاء بوصفة قديمة.. جديدة روّجها الليبراليون الجدد والمؤسسات الدولية الدائرة في فلكهم، هي ترك الأمر للسوق، ولآليات السوق، وللرساميل الريعية. أي ببساطة شديدة التحول باتجاه نظام اقتصادي رأسمالي ريعي، يلبي مصالح الأقلية الثرية المستثمِرة في المصارف والتأمين ومشاريع السياحة والعقارات، ويهمش القطاعات المنتجة، ويزيد الأعباء المعيشية التي تعانيها الفئات الفقيرة والمتوسطة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة والفلاحون الصغار والأجراء الزراعيون، وجمهور المثقفين والمتقاعدين والشباب.

إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة.. المعتمدة على الذات هي -حسب اعتقادنا – البديل الواقعي للسياسات التي طبعت اقتصادنا الوطني منذ عام 2000 بطابع الرأسمالية الريعية، وهي القادرة على إنهاض الاقتصاد السوري من جانب، وتطوير مناطق البلاد الأقل نمواً، وخلق وعي مجتمعي مدني، يتجاوز الثوابت القائمة على الفكر الغيبي والانتماء العشائري والقبلي، ويضيّق الخناق على البيئات الحاضنة للتطرف والفكر الإرهابي.

1 – تنمية المناطق المتخلفة، وخاصة المناطق الشرقية  والشمالية من البلاد، واستهداف المجتمعات المحلية بحزمة من الخدمات التعليمية والصحية، ومشاريع تحسين الدخل الأسري في هذه المناطق، بالاستناد إلى خطة حكومية يساهم فيها قطاع الدولة بعد إصلاحه وتطويره، والرأسمال الوطني المنتج.

2- استعادة الدور الرعائي الداعم للفئات الفقيرة، ووضع سياسة ثابتة للأجور تقوم على سلم متحرك يتناسب مع غلاء المعيشة، والحفاظ على المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة، وتعديل قانون العمل بهدف إلغاء التسريح الكيفي والتعسفي، وتوسيع قوانين الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي والصحي للطبقة العاملة.

3 – وضع خطة شاملة لتجفيف بؤر الفقر، وخلق فرص عمل جديدة في المناطق الفقيرة بالتعاون مع المجتمعات المحلية والأهلية.

4 – الحد من تفشي البطالة، خاصة بين الشباب. وإن زيادة استثمارات الحكومة في قطاعها العام، والتعاون مع القطاع الخاص لتوفير فرص عمل جديدة، وتقديم التسهيلات المصرفية للمهنيين والحرفيين الشباب، ودعم الزراعة السورية، هي من أبرز الحلول في هذا المجال.

5 – دعم التعليم المجاني وتطويره، ومعالجة تسرب التلاميذ، والاهتمام الخاص بتعليم الفتيات في المناطق الأقل نمواً، وإقامة جامعات حكومية جديدة ومناهج متطورة، قادرة على استيعاب الزيادة المضطردة في أعداد الطلاب.

6 – تنفيذ الوعود القديمة الجديدة التي قطعتها الحكومات بتمكين المرأة السورية، وزيادة مساهمتها في الحياة السياسية والاقتصادية، وسن التشريعات العصرية الهادفة إلى مساواتها الكاملة مع الرجل.

إن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية استناداً إلى نموذج اقتصادي تنموي تعددي، سيمارس تأثيره لا في البنى الاقتصادية وقطاعات الإنتاج، أو في التبديل الجذري للأوضاع الاجتماعية والمعيشية لجماهير الشعب السوري فقط، بل ستمتد مفاعيله أيضاً إلى الأوضاع السياسية في البلاد، إذ يساعد في تحقيق الاستقرار المجتمعي، ويدعم إصلاح النظام السياسي والاقتصادي، الذي يتم التوافق عليه- حسب ما نرى – في مؤتمر الحوار الوطني الذي يضم جميع الأطياف السياسية  والاجتماعية والإثنية في البلاد، والذي سيحدد مستقبل سورية الديمقراطي التنموي العلماني.

basharmou@gmail.com

العدد 1105 - 01/5/2024