صفحات من تاريخ أسود.. في حروب بالوكالة

د. نهلة الخطيب:

بالنظر إلى ماهية الحروب بالوكالة نجد أنها حروب تقوم بها دولة بالنيابة عن دولة ذات قوة دولية أو إقليمية لا ترغب بالدخول في نزاع مسلح بشكل مباشر، وغالباً هي حروب استنزافية طويلة الأمد لا غالب ولا مغلوب فيها، وتدار الحروب من خلال تقديم كل الدعم اللازم للتنظيمات والجماعات والأحزاب السياسية، ويجب أن تكون منطقة النزاع بعيدة جغرافياً حتى لا يمتد النزاع إلى الدول الكبرى أو أحد حلفائها، وأن تكون الدولة الموكلة ضعيفة وصغيرة وذات أهمية جيوسياسية.

شهد العالم قديماً هذا النوع من الحروب بالوكالة وانتشرت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية وفي فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المعسكر الغربي والاتحاد السوفييتي وحلفائه في المعسكر الشرقي.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الاشتراكي عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة على الصعيد الدولي، واجهت روسيا باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي متغيرات فرضتها تغيرات إقليمية ودولية في العالم دفعتها إلى ضرورة التفكير في توجه جديد لسياستها الخارجية بشأن استعادة مكانتها كقوة عظمى، فقد ظهر فشل روسيا وضعفها في حماية النظام اليوغسلافي عام1999 ولم تستطع التصدي للغزو العسكري الأمريكي في العراق والغزو العسكري الغربي لليبيا، فجاء بوتين عام 2000  ليردّ جزءاً من اعتبار روسيا واستعادة  مكانتها الدولية والإقليمية وإعادة تشكيل منظومة عالم متعدد الأقطاب تكون فيه روسيا واحداً من الفاعلين الدوليين وإنهاء الهيمنة الأمريكية، فتوسعت دائرة نفوذها وأثبتت أنها لا تتخلى عن حلفائها، فكان تدخلها في الأزمة السورية إسعافياً وضرورياً وكذلك في الصراع الفنزويلي.

في ظل المخاض الجيوسياسي الذي تشهده المرحلة وما يرافقها من غموض وتصاعد التوترات الدائرة بين القوى العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، وهي القوى التي تدافع عن مناطق نفوذها، نجد أنه على غرار ما كان يحدث في فترة الحرب الباردة عودة الحروب بالوكالة معتمدة على الأطراف الوسيطة والأذرع والخلايا، وكل ذلك يحدث على حساب الدول الضعيفة، لأن التدخلات العسكرية المباشرة تدوم طويلاً وتكلف كثيراً، فبعد التدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان، حيث تكبدت الولايات المتحدة الأمريكية خسائر بمليارات الدولارات ومئات الضحايا من الجنود الأمريكيين دون أن تحقق أهدافها، وكذلك في الحروب التي نشبت في فيتنام وكوريا حيث تكبدت فيها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من الدول الغربية هزائم وانكسارات ولم تحقق النصر العسكري المخطط له، فسعى صنّاع القرار إلى إيجاد حل وسط وهي الحروب بالوكالة.

ومن أهم حروب بالوكالة المعاصرة كانت في سورية عام 2011 في فترة ما يسمى ثورات الربيع العربي ثم تحول الصراع إلى حرب، وكانت هناك حروب داخل الحرب تدخلت روسيا وإيران وإسرائيل، وتركيا ضد الأكراد، والولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم القاعدة. واندلع صراع بالوكالة في فنزويلا حيث يدور الصراع الظاهري ما بين الرئيس الفنزويلي نيكولا مادورو المدعوم من روسيا والصين، وخصمه خوان غوايدو المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية.

ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها كانوا السبب في إشعال فتيل هذه الحرب بتحريض أوكرانيا وتشجيعها على الانضمام إلى حلف الناتو، ورغم التصريحات الأمريكية مع بداية الحرب بعدم التدخل خوفاً من التصعيد ونشوب حرب ثالثة قد تكون نووية، واكتفت هي وحلفاؤها بفرض عقوبات اقتصادية مشددة على روسيا، ولكن الأمر تطور وأصبحت أمريكا أكبر ممول لهذه الحرب بشكل صريح وعلني، وقد وصل حجم المساعدات الأمريكية المقدمة إلى أوكرانيا ما يقارب 3,8 مليارات دولار تشمل مساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية، إضافة إلى الدعم السياسي وحشد التأييد لأوكرانيا والإدانات للتدخل الروسي، فهل الحرب الروسية الأوكرانية حرب بالوكالة؟؟

النائب الجمهوري سيث مولتون قال : (لسنا في حالة حرب فقط لدعم الأوكرانيين، نحن في الأساس في حالة حرب مع روسيا وإن كانت تشن بالوكالة)، نفى البيت الأبيض هذا الوصف وأكد أن الحرب الأوكرانية ليست حرباً بالوكالة وحلف الناتو غير متورط، والولايات المتحدة لا تخوض هذه الحرب، وأوضح جو بايدن أن الولايات الأمريكية تدعم دفاع الشعب الأوكراني عن بلده ولن تشارك في أي صراع مع روسيا، لا يمكن الجزم بأنها ليست حرباً بالوكالة وهدف الولايات المتحدة الأمريكية واضح جداً من هذه الحرب وهو كبح الصعود الروسي والمنافسة على قيادة العالم وإنهاء القطبية، إضافة إلى أهداف اقتصادية وتقديم نفسها كبديل لروسيا بتوريد الطاقة والسيطرة إلى الأسواق الأوربية، عكس ما تدعيه من نصرة الشعوب والدفاع عن الحقوق والحريات، وخير شاهد ما تفعله إسرائيل الابن الشرعي لأمريكا، من قتل وتنكيل وتهجير للشعب الفلسطيني دون أن تحرك ساكناً.

وتظهر الدراسات والأبحاث أن من السهل خوض الحروب بالوكالة، ولكنها تصبح مستنقع يصعب التحكم بها قد تتحول إلى حروب اقليمية تمتد عبر الحدود مزعزعة للاستقرار والأمن الدوليين، إضافة إلى ارتفاع معدل الهجرة والفقر والجوع وظهور التطرف والجماعات الارهابية ونشوب صراعات أخرى، لأن الصراع يولّد صراعاً، وإذا لم تُضبط هذه الصراعات تؤدي إلى نشوب حروب أهلية توفر الفرص للتدخلات والحروب بالوكالة.

الحرب المباشرة بين الدول العظمى مستحيلة، والسلام أيضاً بينها غير ممكن، لذلك فإن الصراع مستمر ويتخذ أشكالاً مختلفة: حروب بالوكالة وحروب اقتصادية وحروب طاقة.. وعلى الدول الضعيفة والصغيرة أن تكيّف نفسها لتدفع أقل ثمن في هذا الصراع.

العدد 1107 - 22/5/2024