الدبلوماسية الروسية تجاه القضية الفلسطينية

د. نهلة الخطيب:

لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط أحد الأهداف الحيوية للدول الكبرى، بل أحدَ أهم أسباب نزاعاتها، ويعود ذلك لأهمية هذه المنطقة الجيوستراتيجية في حركة السياسات الدولية.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه عام 1991، وانتهاء الحرب الباردة على الصعيد الدولي، تراجعت مكانة منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية بالأخص في الاستراتيجية الروسية، وواجهت روسيا، باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي، متغيرات فرضتها تغيرات إقليمية ودولية في العالم بشكل عام وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً التي تعيش دوامة الفوضى الخلاقة التي أنتجتها متغيرات داخلية وأخرى فرضت خارجياً، دفعتها إلى ضرورة التفكير في توجّه جديد لسياستها الخارجية بشأن استعادة مكانتها كقوة عظمى.

قدم فلاديمير بوتين بعد تسلمه السلطة مبادئ أساسية لسياسة روسيا الخارجية التي تهدف في جوهرها إلى استعادة روسيا مكانتها الدولية والإقليمية وإعادة تشكيل منظومة عالم متعدد الأقطاب وإنهاء الهيمنة الأمريكية، وكان من أهم أهدافها، وعلى نحو يتناسب أكثر واتجاهات العالم الجديد، إعادة دور روسيا في آسيا والشرق الأوسط عن طريق تكوين تحالفات إقليمية ودولية جديدة تخدم مصالحها وتعيد مكانتها الريادية ودورها المركزي في النظام الدولي، لتكون واحداً من الفاعليين الدوليين، فعملت على تعزيز مكانتها كفاعل أساسي في شؤون المنطقة عن طريق انخراطها في قضاياها، ولعل أبرز هذه القضايا وأكثرها تعقيداً على مرّ العقود هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فما كان لروسيا إلا أن تقدم نفسها كلاعب دولي مستقل وتغدو شريكة للولايات المتحدة في رحلة البحث عن حلّ لتسوية الصّراع وإقرار السلام والاستقرار في المنطقة.

مرت القضية الفلسطينية في العقدين الأخيرين بفترة حرجة وذلك نتيجة الأحداث الكبيرة التي تعصف بالمنطقة العربية فيما يسمّى بالربيع العربي، وما آلت إليه هذه الأحداث من متغيرات داخلية وخارجية، منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، جعلت القضية الفلسطينية آخر الأولويات في اهتمامات الدول العربية.

وفي ظل تعدّد المبادرات التي تقدمها قوى إقليمية لحل الصراع العربي الإسرائيلي لوقف انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة ورفض الخطط الإسرائيلية الاستيطانية، تبرز رغبة روسيا في تعزيز دورها في إحياء عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولطالما سعت من خلال مواقفها السياسية المعلنة إلى وقف إراقة الدماء على الأراضي الفلسطينية، ولطالما نادت بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وحقه الطبيعي في إقامة دولته المستقلة، كما أنها تحترم نضاله المشرف لبلوغ هذا الهدف. ولم يتغير هذا الموقف الروسي منذ إعلانه، وهو يتمحور على المواقف السوفييتية المعلنة منذ وقت بعيد والمرتكزة على القرار 242 بالرغم من توطيد العلاقات بين روسيا وإسرائيل، حتى عندما شهدت روسيا وجوداً مكثفاً للوبي الصهيوني على أراضيها الذي حاول تغيير هذا الموقف وزحزحته.

وتستند روسيا في بناء موقفها من تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى قاعدة حقوقية وهي قرارات مجلس الأمن التي تحمل الأرقام242  ،338 ،1397 ،   1515والمبادرة العربية للسلام التي أقرتها الجامعة العربية بالإجماع في بيروت عام2002  وخريطة الطريق عام2003  التي اقترحتها اللجنة الرباعية المؤلفة من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة، وانطلاقاً مما نصت عليه هذه الوثائق فإن روسيا تدعم الحل الذي يرى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تعيش في سلام وأمن إلى جانب إسرائيل على حدود عام 1967، ورفض الاستمرار ببناء مستوطنات إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.

وكجزءٍ من انخراط روسيا الأعمق في الشرق الأوسط الذي تزامن مع تعافي روسيا ونهوضها ودخولها إلى المنطقة بقوة عن طريق سورية، واهتمام بوتين بإحياء عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، أخذت موسكو دوراً أكبر كدولة وسيطة عظمى، واستمرت اللقاءات والاتصالات بين القادة الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية روسية، وقد تتضح الجهود الروسية في دعم عملية السلام من خلال الزيارة التي قام بها شمعون بيريز إلى موسكو لمقابلة بوتين في نوفمبر2012 لمناقشة المستجدات حول المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في الوقت الذي التقى به وزير خارجية روسيا برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في القاهرة وعمان من أجل إحياء عملية السلام، وجرت دعوة الفلسطينيين والإسرائيليين لإتمام عملية السلام تحت رعاية رسمية عبّر عنها فلاديمير بوتين في مؤتمر انعقد في موسكو بتاريخ 2/10/2013 وتمنى فيها استئناف الاتصالات المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وإيجاد حل طويل الأمد للنزاع، واعتبر هذا ممكناً لأن الطرفين يتلهفان لإيجاد حل، وأبدى استعداد بلاده لضمان التوصل إليه قائلا ً: (يمكننا أن نساعد ونكون ضامناً).

ولم تتوقف روسيا عن دعمها للعودة إلى المفاوضات بين الطرفين حتى بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي أسفرت عن تشكيل حكومة ائتلافية جديدة من تيارات دينية متشددة وأحزاب قومية، وأصبح من الصعب تشكيل موقف إسرائيلي موحد اتجاه عملية السلام مع الجانب الفلسطيني، إيماناً منها أن لا سلام في المنطقة دون حل عادل للقضية الفلسطينية.

 

وقال بوتين في لقاءٍ جمعه بنتنياهو في موسكو في حزيران 2016: ننشد تسوية مطلقة وعادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحقق تطلعات الشعب الفلسطيني لإقامة دولة مستقلة وتضمن وجود إسرائيل ضمن حدودها المعترف بها دولياً.

ومن خلال مشاركته في المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية سعى بوتين إلى الظهور بصورة أكثر توازناً في نهجه من المقاربة التي تتبعها الولايات المتحدة، وإلى إظهار روسيا كبلدٍ سيحقق نجاحاً حيث فشلت واشنطن، وعلى الرغم من عدم تحقيق بوتين لهذا النجاح بعد، إلّا أن روسيا اكتسبت أهميةً ملحوظة كجهة فاعلة رئيسية في الأحداث العالمية الحاسمة وهي مكانة لطالما توخّاها بوتين.

وقد يرى الجانب الفلسطيني الموقف الروسي موقفاً يصبُّ في صالح القضية وضامناً لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما في ذلك حق تقرير المصير واستقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، وأنه يمثل مظلة دولية لحقوقهم.

وكان التأكيد في جميع تصريحات وزارة الخارجية الروسية عام 2017 على كون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وقد خلقت هذه التصريحات حالة من الغضب والاستياء في الأوساط السياسية العربية، وقد اعتبرها البعض مرفوضة تماماً مؤكدين أن القدس كاملة هي عاصمة لفلسطين العربية، على أي حال فإن هذا التصريحات تتناغم مع تاريخ الموقف الروسي من القضية الفلسطينية فضلًا عن توافقه مع رؤية بعض الدول العربية التي تنادي بالالتزام بحل الدولتين وفقا لحدود 1967 في سبيل تحقيق السلام وتحقيق التسوية الفلسطينية الإسرائيلية.

وكان بوتين قد أدلى خلال مشاركته عبر تقنية الاتصال المرئي في اجتماع مع مديري أبرز وكالات الأنباء العالمية، على هامش أعمال منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي (SPIEF2021) أنه لن يكون من الممكن تحقيق سلام دائم في المنطقة دون حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، واستطرد قائلاً: (عندما نضع نصب أعيننا أن القضية الفلسطينية حساسة ومهمة بالنسبة للعالم بأسره، سيكون من المهم بمكان ألا يتم طرح الموضوعات المتعلقة بحل تلك القضية وتناولها على هامش السياسة الدولية أو في خلفيتها)، إلا أنه أكد في اللقاء نفسه حرص روسيا على إبقاء علاقاتها وديةً مع إسرائيل.

العلاقات بين روسيا والفصائل الفلسطينية جاءت امتداداً لعلاقات قوية بدأت بين الاتحاد السوفييتي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد احتضنت موسكو لقاءات على أعلى المستويات لقادة الفصائل الفلسطينية وبضمنها حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس، وتعطي هذه اللقاءات ذات المستوى الرسمي الدور الروسي زخماً سياسياً في القضية الفلسطينية الذي جعل موسكو في مقدمة العواصم ذات التأثير المركزي في الملف الفلسطيني، وقد تكون روسيا الدولة العظمى الوحيدة ذات العلاقة الإيجابية والحميمة مع حماس، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام2006 ، وهذا يتناغم وتصريحات بوتين المتكررة بأنه لم يعد بالإمكان تجاهل حماس سياسياً.

تتعاطى روسيا مع الفصائل الفلسطينية بالدرجة نفسها وتسعى لتقريب وجهات النظر لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتشكيل حكومة وحدة وطنية، إذ أكد سيرغي لافروف (وزير الخارجية الروسي) مع نظيره السعودي عادل الجبير، في جدّة بتاريخ 10/9/2017، أن روسيا مع دول عربية على اتصال وثيق بحركتي فتح وحماس بغية إقناعهما بالعودة إلى اتفاق المصالحة مؤكداً حرص روسيا على عمل الرباعية الدولية للسلام.

وعلى غير العادة وصفت روسيا الهجمات التي ينفذها الفلسطينيون على الإسرائيليين بعد أشهر من اندلاع الانتفاضة في أوائل تشرين الأول من عام2015  بالهجمات الإرهابية، وقد تكون المرة الأولى التي تقدم بها الديبلوماسية الروسية على هذا الوصف، وهذا ما يعتبر تغييراً مفاجئاً ولا سيما أن ذلك يحصل مع التقارب الروسي مع إسرائيل، وهو ما يثير مخاوف حول فقد الفلسطينيين الداعم الأساسي لهم على الساحة الدولية، وهناك بعض التحليلات التي ترى أن روسيا بهذه المواقف تسعى أن تكون لاعباً دولياً مستقلاً عن الرؤية الأمريكية، وبعض التحليلات الأخرى ترى أن هذا الموقف ما هو إلا مناورة روسية لخدمة مصالحها مع العالم الغربي، وبشكل لا يخدم من الأساس المصلحة الفلسطينية.

السياسة الخارجية الروسية لا تخرج عن محاولة روسيا البقاء على الساحة الدولية بما يضمن هيبة القيصر وبناء الإمبراطورية الروسية وعودتها إلى ما كانت عليه كقوة عظمى في نظام عالمي متعدد الأقطاب وتكوين تحالفات إقليمية ودولية، بمعنى المصالح الخاصة كانت المحدد الأبرز لهذه السياسة، سعي روسيا لأن تكون لاعباً دولياً مستقلاً عن الرؤية الأمريكية ورغبة منها في التقرب للعالم الغربي هو السبب وراء اتخاذها مواقف وسياسات مذبذبة والكيل بمكيالين بحيث تظهر منحازة للجانب الفلسطيني تارة، ومؤكدة أن الموقف الروسي من المطالب الفلسطينية ثابت ويتماشى مع الشرعية والقانون الدولي، وتارة أخرى منحازة للجانب الإسرائيلي متماشية مع سياسة التوازنات والمصالح الاقتصادية الروسية، بغض النظر عن أطراف الصراع ومصالحهم، وبذلك لا يمكن اعتبار القضية الفلسطينية بمعطياتها وأطرافها أكثر من أداة لتحقيق الطموح الروسي العالمي، يتطلع بعض الفلسطينيين إلى روسيا للعب دور في إعادة الحقوق إلى أصحابها ونصرة حركات التحرر الوطني الفلسطيني بالضغط على الكيان الصهيوني، ولكن مع غياب الرؤية لا يبدو روسيا تقف معهم ولا تملك رؤية خاصة بها لحل القضية الفلسطينية، هي تؤيد الطرح الأمريكي للتسوية، واكتفت بصفة مراقب في رعاية وعقد لقاءات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.

القضايا الدولية الكبيرة لا تحل بالوكالة وليس أمام القيادات الفلسطينية إلا خيار المقاومة بالتزامن مع المفاوضات، وذلك باستثمار الطموح الروسي إلى تعزيز دورها في المنطقة من خلال تقوية الدبلوماسية الفلسطينية وتأثيرها في السياسة الخارجية الروسية والعمل على الاستعاضة عن الوسيط الأمريكي بالوسيط الروسي في عملية السلام لتقديم تسهيلات دبلوماسية ولوجستية.

الحق لا يطالب به وإنما ينتزع، وليس أمام الفلسطينيين سوى مراكمة القوة لكي يكونوا رادعين لأعدائهم، وإلا سيكون مصيرهم كمصير شعوب كثيرة انصهرت وتلاشت والتاريخ خير شاهد.

العدد 1105 - 01/5/2024