مخاض لنظام عالمي جديد يهزّ عرش أمريكا

د. نهلة الخطيب:

انخرطت أمريكا بالحرب العالمية الأولى عام 1917 ثم بالحرب العالمية الثانية عام 1941 وفي عام 1945 أمر الرئيس الأمريكي هاري ترومان بقصف اليابان بالنووي في هيروشيما وناغازاكي، فوجدت أمريكا نفسها مع المنتصرين الأوربيين تتقاسم مع الاتحاد السوفييتي العالم الذي قُسم إلى معسكرين رأسمالي تقوده أمريكا، واشتراكي يقوده الاتحاد السوفيتي. في عام 1947 قال ترومان انتصرنا في الحرب ولكن يجب أن ننتصر في السلام، لذلك نحن بحاجة إلى مجموعة من الإجراءات والإصلاحات تتناسب مع ما بعد الحرب، وكانت أهم الاجراءات تأسيس مجلس الأمن القومي مهمته تقديم دراسات لمساعدة الرئيس على اتخاذ القرار، وفي عام 1950 قدم وثيقة رقمها (68) واسمها وثيقة الأمن القومي، وهي المرسوم التشريعي التي تمشي عليه أمريكا لحد الآن، وهدف هذه الوثيقة السياسي منع بروز أي دولة أو مجموعة منافسة أو مؤثرة على قيادة أمريكا للعالم. وجاءت لحظة أحادية القطب عام 1991 ويجب أن تحافظ أمريكا على هذه اللحظة مئة عام، فانتهجت سياسة الاحتواء وملء الفراغ السياسي والهيمنة الليبرالية وأسست لنظام اقتصادي عالمي يواكب النظام السياسي العالمي، مرتكزاته بريتون وودز وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية CAT، إضافة إلى العولمة والتكنولوجيا وتصدير الديمقراطية وحقوق الانسان والتدخل الانساني الذي من خلاله تتدخل بالشؤون الداخلية للدول وتنتهك السيادة مدفوعة بأفكار واقعية لحماية أمنها القومي.

أمريكا في حالة تراجع نسبي مع تفاقم التحديات التي يواجهها العالم بظهور الأوبئة والاستعداد لحالات الطوارئ الصحية العالمية واضطرابات سلاسل التوريد وأزمات الديون ومواجهة تغيّر المناخ وإعادة تصور مستقبل الطاقة بطريقة أنظف وأكثر أماناً وبأسعار مقبولة ونقص الغذاء العالمي، وأنه لا يمكن لأي أحد أن يواجه هذه التحديات بمفرده وإنما يجب التعاون من جميع دول العالم، وبظهور قوى منافسة كبرى كالصين وروسيا فإن أسس النظام الدولي الأحادي تتعرض لتحدٍّ خطير ومستمر، ولكن أمريكا لم تنهَرْ بعد وهي إلى الأمام لعشر سنوات قادمة هي حتماً دولة عظمى وسياستها الخارجية ترسم ضمن مؤسسات وليس أشخاص، خسرت فرصة كبيرة بقيادة العالم أمام تحدي وباء كورونا الذي حصد الآلاف من الضحايا والمفترض أن تنظم مؤتمراً بقيادتها تدعو إليه جميع دول العالم وتفرض برتوكولاً عالمياً لمواجهة الوباء، إضافة إلى خسارة أوربا الغربية بفرض رسوم حلف الناتو في عهد الرئيس دونالد ترامب.

كيف ينتقل النظام الدولي من شكل إلى آخر؟ روبرت غلبين طرح نظرية في كتابه (الحرب والتغيير) تقول إن النظام العالمي يكون بحالة توازن وعندما يصبح لدينا تباين في نسب النمو بين الدول الكبرى يقود إلى إعادة توزيع القوة في العالم، وهذا يؤدي إلى اختلال توازن القوى وحالة عدم وضوح وهي مرحلة خطيرة جداً، تتجلى في عدم الاستقرار والتصعيد وخلق بؤر توتر حول العالم. إضافة إلى أن هناك تمييزاً في بنية النظام الأحادي القطب من حيث المرونة تقسم من (0 إلى 10) أحادي جامد وأحادي ومائل للمرونة ومرن، وعندما أكون بالمرونة (7) يعني أنه نظام مرن أصبحت فيه تحولات موازين القوى وظهور فاعليين دوليين مثل روسيا والصين وآسيا عموماً ومؤثرين غير حكوميين وشركات التكنولوجيا العملاقة، تتحرك بمرونة وبحرية أكثر وبالتالي نكون بطريق للتحول إلى نظام دولي ثنائي أو متعدد.

فالصين هي أخطر تحدٍّ طويل الأمد يواجه النظام الدولي، فهي دولة قوية قانعة مؤقتاً لا تسعى للتغيير الجذري للنظام الدولي (نتيجةً لعلاقتها الاقتصادية بأمريكا والاعتمادية المتبادلة بينهم) وإنما تسعى إلى إعادة تشكيله، الصين ذات نفوذ وتأثير وطموح غير عادي وهي ثاني أكبر اقتصاد بالعالم وقوة عاملة ذات قدرة عالية وتضم مدناً عالمية المستوى، وهي موطن لأكبر شركات التكنولوجيا في العالم وتسعى للسيطرة على تقنيات وصناعات المستقبل، حدّثت جيشها بسرعة وتعتزم أن تصبح قوة قتالية من الدرجة الأولى وذات امتداد عالمي، وستكون المنافس الأكبر لأمريكا بما تشكله من تحالفات عالمية وتكتلات إقليمية وإقامة علاقات مع دول الجوار، مما جعل أمريكا تفرض على الصين ضغوطات بحقوق الإنسان وملف تايوان والتبت ومحاولاتها لقطع إمدادات الطاقة ومناطق نفوذها لوقف نموها الاقتصادي.

روسيا أيضاً تحدٍّ خطير على بنية النظام الدولي ذلك أنها دولة قوية غير قانعة تسعى إلى التغيير وترغب في دور لها في بنية النظام الدولي، وهذا ما صرح به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونخ للسلام عام 2007، بأنه لا يوجد نظام وحيد القطب وهناك نظام متعدد الأقطاب ونحن جزء منه، ونحن لسنا عبيداً لأمريكا، لدينا قوة نووية وموارد اقتصادية ونمتلك حق الفيتو، والحرب الروسية الأوكرانية الحالية هي حرب بالوكالة بين أمريكا وحلف الناتو من جانب وروسيا من جانب آخر، لم تحسم بعد ولكنها تلوح بملامح جديدة للنظام الدولي.

ويتوقع أن هناك دولاً إقليمية سوف تؤثر على مستقبل العالم وبنية النظام الدولي القادم وهي نيجيريا في إفريقيا بسبب البترول، وتركيا في الشرق الأوسط صاعدة بشكل كبير جداً، والهند والبرازيل وإيران وكوريا الشمالية، وقد لا يكون تأثيرها بشكل مباشر ولكن عن طريق تحالفات وتكتلات مع دول أكبر منها، فأي دولة تحت النفوذ مهما كانت صغيرة تدعم الدولة العظمى مثل البحصة التي تسند صخرة، فنجد التحالف الاقتصادي (بريكس) (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) يعدّ توازناً ناعماً ضد أمريكا والدول السبع G7 وإن لم يكن له تأثير فعلي حتى الأن.

الأن يتم رسم خارطة جيوسياسية بين الأقطاب الثلاثة أمريكا والصين وروسيا وملامح لنظام عالمي جديد فيه تحالف شرقي روسي إيراني صيني، إطارها ميثاق الأمم المتحدة الذي كرس مفهوم تقرير المصير والسيادة والتسوية السلمية للنزاعات والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجوهرها توازنات القوى التي تتحكم في الصراعات والنظام الجديد لن يقوم على أنقاض النظام الذي يحتضر، فما زالت أمريكا وحلف الناتو قوة لا يستهان بها، وكل ما في الأمر هو زوال  القطبية الأحادية ولن تبقى أمريكا هي الرقم واحد، المتحكم في الملفات والصراعات، وبروز عالم متعدد الأقطاب عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وسباق تسلح وظهور تكتلات إقليمية، وسيظل التعاون الدولي قائماً برغم التوترات بين الدول.

العدد 1105 - 01/5/2024