اقتصاد (الكبتاغون) المدمّر

حسين خليفة:

اليوم، 10/9/2022، اعتقلت السلطات الألمانية أعضاء عصابة خطّطت لتوزيع 700 كغ من المخدّرات في أنحاء أوربا، مصدرها إيران، كما أعلن الادّعاء الألماني.

في 22/8/2022 ضبطت السلطات السعودية كمية 460 مليون حبة إمفيتامين (الاسم العلمي للكبتاغون) مخبأة في شحنة طحين. فيما أفادت السعودية سابقاً أنها ضبطت أكثر من 700 مليون حبّة مخدّرة دخلت أراضيها عبر لبنان خلال السنوات الثماني الماضية.

وفي العام الماضي، علّقت الحكومة السعودية جميع واردات الفواكه والخضروات من لبنان بعدما جرى إخفاء خمسة ملايين قرص كبتاغون داخل حوالي ألفي حبة رمان شُحنت من بيروت.

مثل هذه الأخبار تتكرّر مراراً في نشرات الأخبار عن اكتشاف كميات كبيرة من المخدّرات على المنافذ الحدودية في أكثر من بلد، ومصدر المخدّرات غالباً هو الشرق الأوسط وسورية أو لبنان على وجه الخصوص.

ماذا جرى حتى تصبح بلادنا مصدراً لهذه الآفة إلى العالم، فضلاً عن السوق الداخلية التي أصبحت قصص الشباب المدمنين على كل لسان؟!

كانت سورية قبل الحرب بلداً بعيداً نسبياً عن خطر المخدّرات ترويجاً وتجارة، لكن ما إن بدأت الحرب أواخر 2012، وتدافعت ميليشيات مسلحة من كل شكل ولون إلى الأراضي السورية لتقاتل مع هذا الطرف أو ذاك، حتى بدأت نشاطها المعتاد في زراعة المخدّرات وتصنيعها وترويجها و(تصديرها) أيضاً.

ويحتل (الكبتاغون) موقع الصدارة في نشاط هذه العصابات التي تتمتّع بحماية ودعم يعرفه القاصي والداني، خصوصاً أبناء المناطق التي أُقيمت فيها مصانع الكبتاغون تمهيداً لترويجها وتصديرها.

ومعروف أنه حيثما تنتشر الميليشيات المسلحة، فإنها تلجأ إلى الطريقة الأسهل لجني المال الوفير والسريع لتلبية احتياجاتها من السلاح والعتاد والرجال، وهي زراعة المخدّرات وتصنيعها وترويجها وتصديرها.

لماذا الكبتاغون؟!

الكبتاغون هو التسمية التجارية لعقار نال براءة اختراع في ألمانيا في أوائل الستينيات من القرن الماضي، مؤلّف من أحد أنواع الأمفيتامينات المُحفّزة ويدعى فينيثلين، مُخصّص لعلاج اضطرَابيّ نقص الانتباه والأرق من بين حالات أخرى، وبمجرّد ابتلاعه يسيطر على الشخص المستهلك شعور بالقدرة المطلقة، ويقلُّ إدراكه للخطر بشكل كبير. لكن حالما تتلاشى آثاره، يسيطر على الشخص المتعاطي التعب والاكتئاب والأرق. ونظراً لخطورة آثاره الجانبية، حُظر في عام 1981 في الولايات المتحدة. وأُدرِجَ في عام 1986 على لائحة العقاقير الخطيرة من قبل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدّرات والجريمة، ومُنع إنتاجه قانونياً بعد ذلك. ثم تحوّل إلى مادة مخدّرة يتم إنتاجها واستهلاكها بشكل شبه حصري في منطقة الشرق الأوسط.

التغيير المستمر في تركيبة حبوب الكبتاغون جعل محاولات إحباط الاتجار به أكثر صعوبة، وفق (معهد نيو لاينز) الذي أوضح أن (أحد الجوانب الأكثر صعوبة في تتبع أنماط إنتاج الكبتاغون وتهريبه واستهلاكه يكمن في تحديد مركّبه الطليعي وتعديل تركيبته الكيميائية باستمرار””.

ويذكر التقرير الذي تشره المعهد أسماء أشخاص وعائلات وقوى متورطة في إنتاجه وتهريبه.

وقد قُدِّرَت القيمة الإجمالية للتجارة به عالمياً بـ5.7 مليارات دولار لعام 2021 فقط، وهو يظهر زيادة كبيرة عن العام الذي سبقه (3.5 مليارات دولار) ولا يتجاوز سعر الحبّة دولاراً واحداً في بعض المناطق السورية وتُباع لزبائن غالباً ما يتعاطونها للبقاء يقظين وللعمل ساعات إضافية، وبالأخص المقاتلون في الميليشيات المسلحة الذين تتطلّب منهم ظروف القتال السهر لأيام والبقاء بكامل اليقظة والقوة، ثم يتحوّل إلى إدمان حتى بعد ترك الشاب للميليشيات أو انتهاء العمليات الحربية.

لكن في السعودية مثلاً، حيث يُعدُّ الكبتاغون عقاراً للمتعة، فقد يتخطّى سعر الحبة 20 دولاراً!؟

وقد سبق أن استخدمت الجيوش مواد مخدّرة لإبقاء الجنود يقظين، ففي الحرب العالمية الثانية ، كان الميثامفيتامين يحظى بتقدير كبير لدى النازيين، بينما كان الكوكايين يُستهلك على نطاق واسع في الجبهة خلال الحرب العالمية الأولى من 1914-1918.

شباب سورية توزّعتهم المقابر والمنافي والمعتقلات، ومن بقي منهم صار تحت خطر الإدمان نتيجة انتشار المادة ورخصها النسبي لأنها (صناعة وطنية) للأسف. إضافة إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء الشباب اضطروا تحت ضغط الحاجة إلى العمل مع ميليشيات مسلحة لتأمين لقمة العيش، إذ انعدمت فرص العمل في البلاد، وأصبح الفرد بحاجة إلى حماية نفسه وعائلته من شرور هذه الميليشيا التي كانت تتحكّم بمصائر الناس، وأسهل طريقة لذلك هي الانضمام إليها، مع أنها مكروهة طبعاً من معظم السوريين مهما تعدّدت وتنوعت تسمياتها وراياتها وشعاراتها. ومعظم من (تطوّع) في صفوفها أُصيب بالإدمان، وحالما ترك العمل لديها، أو انتهت الحاجة إليه، أصبح يواجه مشكلة الإدمان وحده بعد أن كان قادة الميليشيا يؤمنونها لعناصرهم كتجارة أولاً، ولاستثمار طاقاتهم إلى أقصى حدّ ثانياً.

هل من أمل يُرتجى في مكافحة هذه الكارثة؟

في الظروف الحالية، وحسب المعطيات الموجودة على الأرض، يبدو من المحال ضرب شبكات إنتاج المخدّرات وتهريبها وتوزيعها لأنها محمية من قبل أثرياء الحرب وشركائهم. لذلك فإن أول خطوة لإنقاذ المجتمع السوري والشباب تحديداً من هذا الخطر المدمّر هي ضرب المموّلين والحماة لهذه الآفة، وهم كما قلنا تجّار الحرب وشركاؤهم في مواقع النفوذ. وهذا غير ممكن بلا دولة مؤسّسات وقانون يسود على الجميع، وذلك بتأمين فرص تطبيق الحل السلمي للأزمة عبر الحوار وإشراك السوريين كلهم في تحديد مصير البلاد وإقامة مؤسّسات الحكم على أساس ديمقراطي علماني يعتمد فصل السلطات، واستقلالية القضاء، وتداول السلطة عبر صناديق اقتراع شفافة وحقيقية.

حتى يتحقّق هذا الحلم، وهو بعيد المنال كما يبدو، سيبقى شبابنا نهشاً لحيتان المال وتجّار الحرب وضحايا للإدمان والضياع أو الهروب خارج البلاد لإنقاذ أنفسهم على الأقل من هذه المذبحة الصامتة.

العدد 1107 - 22/5/2024