العالم على أعتاب عصر روسي_ صيني جديد

د. صياح فرحان عزام:

لا توجد إمبراطورية أو حضارة على وجه الأرض محصنة من الانهيار مهما بلغت قوتها وعظمتها، وعلى سبيل المثال في القديم وصلت مساحة الإمبراطورية الرومانية في عام 380 ميلادية إلى 4.4 ملايين كم2، ثم تقلصت مساحتها بعد خمس سنوات إلى مليوني كم2، وفي عام 476م لم يعد لها وجود.

وفي العصر الحديث كان الاتحاد السوفييتي ملء السمع والبصر، وفجأة صدر في 26 كانون الأول 1991 الإعلان رقم 142 المتضمن نهايته تماماً، والاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفييتية السابقة، وبذلك انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة النظام العالمي لثلاثة عقود متتالية.

ولكن أمريكا بدأت تستشعر الخطر المحدق بهيمنتها، وبأن مقعدها على عرش العالم يهتز، وأن التنين الصيني يسعى ليس فقط لمزاحمتها بل لاحتلال مقعدها، فضلاً عن روسيا التي تسعى لاستعادة مكانتها. لذلك قررت الولايات المتحدة أن تتحرك استراتيجياً وحتى عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر للحفاظ على مكانتها العالمية، ولتستفيد من كل ما يحيط بها من صراعات، وهذا ما تجسد في الحرب الأوكرانية التي أشعلت نارها استهدافاً لروسيا وجيشها، ثم في زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان في تحد واضح ووقح للصين، وإطلاقها تصريحات استفزازية حول دعم بلادها لتايوان.. وهذا ما أكده أيضاً الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب له يوم 21 آذار الماضي حول بروز (نظام دولي جديد) ستتحكم من خلاله الولايات المتحدة في الوضع الاستراتيجي العالمي.

بطبيعة الحال، الرئيس الروسي بوتين كان مدركاً لأهداف التحركات الأمريكية، فأعلن في 30 تموز الماضي في خطاب له: (أن الغرب يواصل تجاهل حقيقة ظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ويسعى في ممارساته لتحقيق هدف واحد هو الحفاظ على هيمنته بأية وسيلة)، ولذلك جاء رد موسكو قوياً، فأعلنت عن عقيدة عسكرية بحرية جديدة تعتبر نهج الولايات المتحدة نحو الهيمنة في المحيطات العالمية بمثابة العدو الأول للأمن القومي لروسيا الاتحادية.

أما الصين فأصدرت منذ أسابيع كتاباً أبيض بخلاف الكتاب الأبيض الذي صدر في عام 2019 يحمل عنوان (الصين والعالم في العصر الجديد)، أكدت بكين في الكتابين (أنه من المستحيل حالياً لدولة واحدة أو لتكتل من عدة دول ممارسة الهيمنة على الشؤون العالمية.

إن (كتاب الصين) و(العقيدة العسكرية الروسية الجديدة للبحرية الروسية) يؤكدان أن النظام العالمي الجديد الذي يتشكل، يشير صراحة إلى انتهاء عصر القطب الواحد، وأنه لا مجال للهيمنة والسطو على أفكار الآخرين وحقوقهم وإرادتهم، وأن كل دولة يحق لها أن تختار طريقها وطريقتها في العيش والتعايش مستقبلاً.

لقد بات من المؤكد أن المسرح مفتوح لعصر روسي – صيني رسم ملامح عالم قطبي جديد على كل المستويات، وقد بدأت روسيا بإنشاء أنظمة تسوية مالية محمية من التدخل الخارجي، وهو ما يجعلها قادرة على بناء هيكل مادي لا تستطيع الاقتصادات غير الصديقة التدخل فيه، ما يشير إلى أن العقوبات التي استهدفت تدمير روسيا قد فشلت بل جعلتها (أي جعلت روسيا) دولة تسجل فائضاً في التجارة بمستويات عالية وقياسية، وبالتالي هذا كله أوجد منطقة عالية لم تتأثر بمؤثرات الميديا الغربية التي تجتاح الشارع الأوربي حالياً، مع بداية ظهور انقسامات خطيرة، بدأت من بروكسل وتجاوزت مجال الطاقة إلى انقسامات في مجالات السياسة المالية والنقدية، ثم في القدرة على تأخير الانهيار الغربي.

 

العدد 1105 - 01/5/2024