حول إشكالية الزمن في ثقافتنا

يونس صالح:

إذا كنا نسلم بأن تحكّم نزعة الانشغال بالماضي والتعاطي مع مفرداته بذهنية تقليدية هو أبرز ما يعوق حركة الثقافة الراهنة عندنا، ويمنع تطورها، فهل يسوّغ لنا ذلك أن نضع الحاضر في مواجهة مع الماضي ونعبئه ضمن ثنائية متناحرة؟

بداية لابد من الإقرار بأن ثمة سلبيات تنوء بها ثقافتنا الراهنة، وفي مقدمتها على الصعيد الذهني الافتقار إلى ملكة التجاوز، والأخذ بالقراءة اللاتاريخية للتراث، واتباع المنهج الذي تتم بموجبه مقايسة حاضر الأفكار والمواقف بغائبها دون وعي باختلاف السياقات، ولا تمييز بين أفكار حية وأفكار ميتة، ولا فرز بين مواقف مشعة وأخرى لا ترسل الإشعاع.

ومن السلبيات أيضاً إثارة ما استهلك من موضوعات جدلية وإحياء ما انقضى من صراعات، والمبالغة في تمجيد الكتب والأشخاص، والتغني بأمجاد السلف، واجترار سلبيات التراث، وإهدار الطاقات، فيما لا جدوى أو قيمة من ورائه بعيداً عن هموم الحاضر وما يقتضيه الواقع من شروط ومستلزمات.

وليس من شك أن التوجه نحو الماضي على هذا النحو يمثل مأزقاً مؤسفاً تعاني منه ثقافتنا اليوم.. ولكن هل يكون من المناسب ونحن في صدد نقد هذا المنحى، أن ندعو إلى الانصراف كلياً عن الماضي، ونطالب بضرورة محوه من الذاكرة بحجة أن التفكير بإقامة المعابر بينه وبين الحاضر لا ينتج إلا لغواً وتراجعاً إلى الوراء؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي منا أن نفرق بين نوعين من الثقافة، هما ثقافة الواقع وثقافة المعيار، ثم أن نميز بين (الثوابت) وهي نسبية بالطبع و(المتغيرات).

إن ثقافة الواقع هي مجموعة العادات والتقاليد والنظم وأنماط العيش وما يستخدم من أدوات وتقنيات ضمن إطار اجتماعي معين، والثقافة في بعدها (الإبداعي) تقع ضمن هذا المعنى الذي يتبناه أغلب الباحثين في علم الاجتماع، أما الثقافة في بعدها المعياري، فهي جملة القيم والمعايير والأفكار والتصورات النموذجية التي توجه الفكر والسلوك بصرف النظر عن مدى تجسيدها على أرض الواقع.

أما فيما يتعلق بمبدأ الثوابت والمتغيرات، فهو يحتل في بنية ثقافتنا المعيارية مكانة محورية يمكننا معرفتها عند معرفتنا معنى الثوابت ومعنى المتغيرات. إن الثوابت هي مجموعة العناصر التي تمتد لتؤكد مستويات من الأخلاق والتشريع والاجتماع وغيرها، وتشكل بمجموعها المكون الرئيس لهوية الأمة، وهذه الثوابت تتعرض باستمرار للتطور وللحركة، فلها إذاً طابعها النسبي، أما المتغيرات فهي كل ما خرج عن دائرة تلك الثوابت، وهذا مجال رحب جداً يتيح لأهل العلم حرية الاجتهاد، ومراجعة الأفكار والسياسات والقيام بقراءات جديدة.

إن الثوابت بمحدودية عناصرها، والمتغيرات بسعة مجالها حَرِيّتان بتشكيل نظام معرفي يتيح للفكر والسلوك إمكانيات التحرك نحو ألوان التجدد، بما لا يبرر للحداثيين نبذ الأصالة، ولا للماضويين الامتناع عن التحرر والتجديد.

إن الحداثة التي سطعت في سماء الثقافة اليابانية على سبيل المثال لم تمنع اليابانيين من التواصل مع الماضي ورموزه، بل لعل تواصلهم هذا كان أحد مقومات نهضتهم الحديثة، وحتى الثقافة الغربية التي قد يظنها البعض خالصة الحداثة لم تنقطع هي الأخرى عن مثل هذا التواصل.

إن القطيعة الثقافية بمعناها الحرفي هي مستحيلة، فهل لنا بعد ذلك أن نستغرب ونسأل: لماذا حين يثار الحديث عن ضرورات تجديد اللحظة الثقافية الراهنة، تبرز أمامنا عقدة الماضي؟ إنه لمن الإجحاف أن يقرن التخلف بكل أشكال الاتصال مع الماضي، فيما يحصر التقدم بما هو حديث ومعاصر. وفي الحقيقة يجب الحذر من الغلو بالشكلين (الحداثي) و(الماضوي) ومن ثم فإن إعادة بناء الثقافة الراهنة عندنا يجب أن تتم بالتفرقة بين ثقافة الواقع وثقافة المعيار، واستثمار ذلك على النحو الذي من شأنه إنعاش عروق ثقافتنا الذابلة وإمدادها بدم التجديد.

 

العدد 1105 - 01/5/2024