الأب الذي كان.. الأب الذي صرنا

حسين خليفة:

سأستأذنكم وأستأذن الشاعر الجميل هاني نديم لإيراد هذا النص الشعري المذهل له، الذي يمسُّ بحرارة وجمال قلّ نظيرهما، علاقة الابن بالأب:

(ها أنت تصير اليوم أباك

تفـزّ من فراشك دون سببٍ واضح، كل ساعتين…

تنظر إلى النافذة وتشرد كأنك ترى طيور ليلٍ أو تنتظرها

تنام..

وبعد ساعتين تعود للشبّاك..

ها أنت تصير اليوم أباك

تَصِفُ الزيتَ لكل الأوجاع

والعتابةَ للأسماع

ومن أول الصيف تسأل عن الزبيب والتين

وفي تشرين

يأكل الكلُّ إلّاك..

ها أنت تصير اليوم أباك

رائحة كفّيك رائحة كفّيه

وحزنك الخافت كوجيب خافتةٍ حزنه الخافت

ووجهك في المرآة وجه السلالة الطاعنة في الصمت والأشواك

ها أنت

تصير

اليوم

أباك…)

هذه القصيدة الجميلة المتمرّدة العالية تكفي لمعرفة أين صرنا من آبائنا بعد أن كبرنا.

إنها تُغْني، برأيي المتواضع، عن عشرات المقالات والأبحاث عن وجود الأب في حياتنا واستمراره، شكلاً ومعنى.

وممّا قرأت من حكم أن الابن يعرف كم كان أباه على حق فقط عندما يكبر ابنه وتتبدّل الأدوار: هو ينصح ويحاول التدخّل في حياته وخياراته، وهو يعاند ويريد أن يكون هو المستقل ابن زمانه، وكلاهما على حق طبعاً.

وبالمناسبة حتى (الآباء الضالّين) لهم أثر كبير على حياة الأولاد وسلوكهم، وإن كانوا على قطيعة مثلاً، أو كانوا بعيدين جغرافياً لظروف العمل أو الهجرة أو الطلاق على سبيل الأمثلة لا الحصر، فهناك آباء تفصلهم مسافات عن أبنائهم وهم يقيمون في منزل واحد، خصوصاً في زمن طغيان التكنولوجيا واستبدادها بالأفراد، فتجد أفراد الأسرة يعيشون معاً لكنهم منفصلون تماماً، وبالمصادفة يدور حديث بينهم، بل حتى الأحاديث بينهم تكون أحياناً على (الواتس أب) أو (المسنجر) وهم في منزل واحد؟!

الموضوع ليس جينات وصفات وراثية فحسب، وهذه لها مكانها وتأثيرها في حضور الأب مع أبنائه بعد رحيله أو قبله أيضاً، لكنه الحضور المعنوي أولاً، والمادي ثانياً.

إنه عمر يبدأ بأن يؤذّن الأب في أذن الطفل حال ولادته أو يُعمِّده، وينتهي بأن يقوم الابن بإغماض عيني والده وهما تحاولان اللحاق بالروح آن خروجها من الجسد.

عمر من التعب والفرح والحب والاختلافات والبحث عنه في غياباته الطويلة، عمر من السهر على مرض أو دراسة أو سفر، ودون أن يعلم الابن أنك معه ومشغول به وبتفاصيله، سيعلم لاحقاً عندما يعيش الحالة مع ابنه أو ابنته، كما أتحفنا الشاعر هاني نديم أعلاه.

ما زلنا في سيرة (الآباء الضالين) ونحن منهم بدرجات متفاوتة.

لماذا أقول عنّا آباء ضالّين؟!

لأنك كأب تحسُّ نفسك مُقصّراً مع أولادك مهما بلغت من حنان وعطاء وحب معهم، فكل أب بهذا المعنى هو أب ضالّ إلى هذه الدرجة أو تلك.

فيما تكون الحالة معكوسة مع الأبناء، غالباً ما يكون الأب بنظر الابن هو الكابح والمُثبط لبحثه الدائب عن التمرّد وتشكيل شخصيته بنفسه بحرية ودون ضغوط وتدخلات، حتى يصل الأمر بكثير من الأبناء إلى (كراهية)” الأب ولو إلى حين، هي ليست كراهية حقيقية، هو التوجّس والخوف الذي يتحوّل الى ما يشبه الكراهية.

وهذا الأمر يتوقف على الأسلوب والطريقة التي يتّبعها الأب في التعبير عن مخاوفه وهواجسه على الأبناء، وتحديداً ما هو صالح لهم وما هو ضار.

هذه العلاقة الإشكالية فعلاً أخذت اهتماماً واسعاً من علماء النفس والاجتماع ومن الأدباء والفنانين، فكانت آلاف الكتب والأبحاث التي تحاول الغوص في هذا الموضوع الشائك والمديد على مدى العمر الذي يجمع العائلة حتى رحيل الأب.

لكن ما نعرفه جيداً، ما يعرفه كل أب مهما كان مستواه المعرفي أو الثقافي، أن الرابط الخفي حيناً والظاهر أحياناً بين الأب وأولاده، هو رابط روحي مكين، ثم تأتي العوامل الأخرى من تأمين احتياجاته، ومساعدته على تعلّم العيش وسط مصاعب وتحديات لا تنتهي، لتُعزّز هذا الرابط وتزيده قوة واستمراراً حتى إلى ما بعد رحيل الأب.

نقطة أخيرة: يرى كثيرون أن علاقة الأبناء مع الأب تختلف عن علاقتهم مع الأم، وهي حقيقة، بسبب طبيعة الأم الأكثر حناناً وعطفاً نتيجة مشاعر الأمومة والوجود الدائم لها مع الأولاد، عكس الأب الذي يغيب كثيراً لعمل أو سفر أو هجرة لتأمين عيش كريم لعائلته أو للسهر مع رفاقه أيضاً،

لكن مع اختلاف طبيعة حضور المشاعر والتعبير عنها عند الأولاد تجاه الأبوين، فإن جوهرها لا يكاد يختلف، وربما نجد هنا حضوراً للعلم في قانون الفعل ورد الفعل الذي يساويه بالقوة ويعاكسه في الاتجاه، فطريقة تعبير الأب عن حبه واهتمامه تختلف عن طريقة تعبير الأم، وبالتالي من الطبيعي أن يكون شعور الأبناء تجاههما ليس بنفس الطريقة أو بنفس الشدّة وإنما يبدو أكثر قرباً من الأم  كونها الأكثر حضوراً وحناناً معهم.

فلا تقنطوا أيها الآباء، لكم في أعماق أولادكم مشاعر حب وعرفان لا تقلُّ عن الأمهات.

فقط الصمت الذي كنتم تعبِّرون به عن حبكم يرتدُّ إليكم صمتاً أجمل، والقسوة الظاهرية التي كنتم تعالجون بها طيش الأبناء يعود إليكم تعاملاً فظاً أحياناً، لكنه تعامل ظاهره القسوة وباطنه الحب الكبير.

 

العدد 1105 - 01/5/2024