عن ظاهرة ازدياد الأثرياء في العالم وتركيز الثروة

يونس صالح:

ها نحن أولاء ندخل بئر الأسرار، فلا أحد في العالم يستطيع أن يحصي ما لدى الآخرين بالتمام والكمال وفي كل بقعة من بقاع الأرض، ومع ذلك جرت وتجري من حين إلى آخر محاولات عديدة لحصر من أسموهم بالمليارديرات أو الأكثر ثراء في العالم.

والقضية ليست مجرد إثارة صحفية، فالبيانات الصحيحة حولها، حتى لو كانت منقوصة، يمكنها أن تعطي مؤشراً حول مَواطن تركيز الثروة، أي الأنشطة، أي الأنظمة الاقتصادية والسياسية، أي الشرائح الاجتماعية والسياسية.

السؤال المهم: من هم أغنى الأغنياء؟

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، وفي منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أذيع مسح علمي من هذا النوع، وأجرت المسح مجموعة من المتخصصين دأبوا على تقديم مثل هذه الدراسات سنوياً.

وعلى الرغم من أن الدراسة تعتمد على ما هو ثابت من بيانات، كاعترافات أصحاب الثروات، أو بيانات الأسواق المالية والبنوك وشركات العقارات وغيرها، رغم ذلك فإن الدراسة تضع تحفظاً أساسياً وهو أن المعلومات والأرقام المنشورة لا تشمل العائلات الملكية وعائلات رؤساء الدول، والأنظمة الشمولية.

ربما كان ذلك خوفاً أو عجزاً عن الحصول على معلومات كافية، لكن هؤلاء الاختصاصيين يبررون ذلك بأن ثروات هؤلاء لم تأتِ عن طريق النشاط الاقتصادي، بقدر ما أتت عن طرق السياسة، ومن ثم جرى استبعادهم.

على أي حال، ما تبقّى من مجتمع الأغنياء يستحق الوقفة والتحليل، ونلاحظ أن كلمة مليونير قد تراجعت، فأصحاب الثروات الكبيرة كلهم ممن نطلق عليهم اسم (ملياردير)، فالمليون أصبح لعبة صغيرة، والمليار هو ما يجذب الانتباه.

وفي هذه الحدود تلاحظ تلك الدراسة أن دائرة الأغنياء هي في اتساع سريع، فلقد بلغ عدد المليارديرات في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ما يقارب الـ700، ويمتلكون أكثر من ثلاثة تريليونات من الدولارات تقريباً، أي بمتوسط يزيد عن الأربعة آلاف مليون دولار لكل شخص.

تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المركز الأول في عدد المليارديرات، فهي تضم بمفردها ما يزيد عن مئتي شخص يملكون أكثر من 358 شركة ومؤسسة عملاقة، وثرواتهم تتجاوز التريليون دولار، أي أن الولايات المتحدة تحتكر بمفردها ثلث عدد كبار الأثرياء، وثلث حجم الثروات الضخمة تقريباً.

وفي الترتيب تأتي ثانيةً أوربا، فهي تضم أكثر من 100 ملياردير، مقابل 36 مليار دير عام 1990، وبما يؤكد الظاهرة التي تحدثنا عنها، ظاهرة النمو المالي السريع، أو ظاهرة التركيز المتزايد في الثروة، وداخل الخريطة الأوربية تأتي ألمانيا في المقدمة، وتكاد تحتكر نصف المقاعد الأوربية.

وداخل خريطة الدول الصناعية تأتي اليابان تالية لألمانيا، ثم قفزت دولة من الدول النامية هي المكسيك التي تضم وحدها 24 مليارديراً، وبما يجعل أمريكا اللاتينية تضم 42 شخصاً من هذا الطراز، وهنا أيضاً تستمر الظاهرة نفسها، ظاهرة التركز السريع في الثروة، تبرز على الخريطة كذلك دول المحيط الهادي الآسيوية كما تبرز فرنسا.

وبتحليل الأرقام الواردة في الدراسة، نلاحظ أن النماء كثيراً ما يكون عائلياً، وليس نتوءاً فردياً هنا وهناك، وهكذا تصبح العائلة سمة من سمات قضية الثروة في العالم.

أما إذا انتقلنا إلى مؤشر آخر تعطيه الأرقام، فإنه يمكن القول إننا أمام ظاهرة انتفاء النشاط الواحد.

صحيح أن هناك من امتلك ثروة من الصناعات ذات التكنولوجيا الحديثة العالية، مثل بيل غيتس، ثاني أكبر الأثرياء، وهو مؤسس مايكروسوفت كوربوريشن، هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أن غالبية الأثرياء الكبار متعددو النشاط.

وهكذا لم يعد هناك – في معظم الحالات- مصدر واحد للثراء، وإنما أصبح الأكثر شيوعاً أن يتجه المال إلى المجالات الأكثر ربحاً، بصرف النظر عن التخصص، فالتخصص مهمة المديرين والفنيين، أما صناعة المال فتلك قضية أخرى ذات استقلال نسبي عن الإدارة والأنشطة الإنتاجية.

وتبقى ملاحظتان:

الأولى: أن معظم الثروات (الأضخم) تتكون في الدول الصناعية الكبرى، وليس في الدول الزراعية أو النفطية.

الثانية: أن المجتمعات النامية الفقيرة تشهد أيضاً تركزاً في الثروة، وأن أثرياءها يزدادون عدداً وبسرعة كبيرة، ومثال ذلك ما يجري في شرقنا، وفي آسيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يعني ميلاً أكبر للثراء وتركز الثروة، قياساً بالدول الغنية.

إن الأرقام هنا مهمة للدلالة على ذلك، وهي متوفرة مع الاستثمارات التي أشرت إليها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024