بإمكاننا إعطائهم الصنارة | التبرعات.. هل تحلُّ مشكلات الفقراء؟

إيمان أحمد ونوس:

منذ زمن ٍ بعيد وحتى اليوم ما زالت مواسم معينة (شهر رمضان، الأعياد.. الخ) فرصة لتقديم التبرعات والولائم الخيرية بشكل لافت بغية دعم بعض الأسر والشرائح الفقيرة من منظور خيري. صحيح أن مجتمعنا يتسم إلى حدّ ما بالتكافل الاجتماعي الذي يُخفّف معاناة الكثير من الفقراء عن طريق الجمعيات الخيرية أو الأفراد الميسورين، لاسيما في المناسبات التي تستدعي مصروفاً إضافياً يكون عبئاً على تلك الشرائح الفقيرة والمُعدمة.

لكن إذا ما دققنا جيداً بتلك الطريقة في معالجة الفقر والحاجة، فإننا نجد أن التبرعات والولائم تساعد إلى حدِّ ما في تجاوز صعوبات آنية، لكنها لا يمكن أن تعمل على الحدّ من ظاهرة التسوّل أو مشكلة الفقر التي تجاوزت عتبته حدوداً غير مقبولة بـ(فضل) السياسات الحكومية منذ حلول (اقتصاد السوق الاجتماعي!) في سنوات سبقت الحرب العبثية، التي كانت أحد الأسباب المباشرة لها مروراً بتلك السنوات العجاف التي لا تزال تفعل فعلها السلبي والقاتل في حياة السوريين اليوم.

لقد مارست الحكومة حينذاك الدور الرعائي- الخيري والتبرعات بشكل لافت في الأعوام التي تلت الجفاف الذي ضرب المحافظات الشرقية، التي كانت تعتمد في حياتها على الزراعة مثلما كانت تُمثّل السلّة الغذائية والمحاصيل الاستراتيجية لسورية. وقد لاحظنا حينذاك وعبر الأخبار المستمرة لنشاط الحكومة، استمرار توزيع السلال الغذائية لأبناء المناطق المنكوبة استدراكاً لحاجة هذه الأسر المُعدمة بما يُبعد عنها شبح الجوع في أدنى درجاته. ولم تكن باقي الجهات الرسمية مثل بعض المنظمات الشعبية بمنأى عن ممارسة هذا النشاط، أي توزيع السلال الغذائية بمناسبة حلول شهر رمضان والأعياد مثلاً. كما لم تخلُ حينذاك صحيفة يومية من أخبار تسرد ما قامت به بعض الجهات الرسمية في العديد من المحافظات.

أمّا اليوم، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أوسع وأسرع قياساً لإعلام تلك السنوات، فقد ظهرت العديد من البرامج على تلك الوسائل لأهداف لسنا بصدد تناولها هنا، برامج استهدفت شرائح مُحدّدة هي الأكثر عوزاً وفقراً من وجهة نظرها، وقدّمت لها مساعدات مالية وعينية ربما تكون مجزية أحياناً، لكنها في الوقت نفسه أظهرت مدى قسوة وفظاعة الفقر الذي يغرق في مستنقعه غالبية السوريين الذين اضطُرّ بعضهم لقبول تلك المساعدات بسبب الجوع والذلّ والفاقة المُقيمة في حياتهم بما أظهرهم كمتسولين حتى لكرامتهم المهدورة على أعتاب هذا الفقر وتلك البرامج التي لم تُراعِ لا كرامتهم ولا إنسانيتهم بعرضها لصورهم وأسمائهم بشكل مباشر.

إن هذه النشاطات الرسمية سابقاً والأهلية أو الإعلامية التي نحن بصددها اليوم، ربما تساهم كما أسلفت بتخفيف بعض العبء الآني الذي تفرضه متطلبات الحياة الأساسية في ظلّ توحّش الغلاء وانفلات السوق من عقاله حيث لا رقيب ولا حسيب على تحرير الأسعار للمواد الأساسية مُترافقاً مع غضّ نظر الحكومات عن القدرة الشرائية للرواتب والأجور، لكنها جميعها تبقى في إطار التخفيف المؤقّت، ولم، ولن تصل إلى درجة الوقوف في وجه براثن الفقر المؤلم حدّ الجوع ما لم تكن هناك سياسات حكومية ناهضة جادّة وصادقة باتجاه دعم القطاعين الصناعي والزراعي الذي تحتاجه البلاد والحكومات على حدٍّ سواء من أجل النهوض بالفرد والمجتمع والدولة من قاع العوز والفقر.

فما نلمسه من تنامي ظواهر اجتماعية سلبية كالتسول المُقنّع والمُباشر الذي تزداد وتيرته يوماً بعد آخر، إضافة إلى ظواهر أخرى كالدعارة والمُخدرات وتجارة الأعضاء البشرية وغيرها، يعكس مدى ما يمكن أن يناقض فاعلية وجدوى هذه التبرعات والمعونات الآنية التي لا يتعدّى مفعولها مؤونة أسبوع على أبعد تقدير، وربما شراء ملابس للأولاد فقط؟؟

فهلّا بحثنا عن آليات مساعدة أكثر فاعلية للمتبرِع والمتبَّرَع له كتنشيط المعامل والورش الصناعية ومساعدة الفلاحين من مثل إيجاد عمل لأحد أفراد الأسر الفقيرة (الأب، الأم، أو أحد الأبناء) في المنشآت والمعامل الخاصة، بحيث يتمكّن من إعالة أسرته دون الحاجة إلى تبرعات الجهات الخيرية، التي يُفترض أن تقتصر على كبار السن والمرضى الذين لا معيل لهم، ومن ثمّ استثمار الأموال التي يُتبرّع بها في مشاريع صغيرة تعود بالفائدة العملية على الفقراء بشكل يحفظ لهم كرامتهم ويدفعهم أكثر باتجاه العمل بدل الاتكاء على تلك المعونات، فما تمّ التصريح به عن الأموال التي رُصدت لهذه الغاية قد بلغت الملايين إن لم يكن أكثر، هذا على الصعيد الخاص.

أما على الصعيد العام- الحكومي، فيُفترض بالحكومات محاولة ترميم القطاع العام وإعادة عجلة دورانه مع إعادة النظر بهيكلية الرواتب والأجور والالتفات أكثر إلى وضع الشرائح الفقيرة التي لا تجد قوت يومها ممّا يضطرها إلى سلوكيات تُهين إنسانيتها بشكل أو بآخر.

وهنا لا بدّ من سؤال نضعه برسم الحكومات والاعلاميين القيّمين على تلك البرامج ورُعاتها: ألاّ يُمكننا إيجاد بدائل أكثر عدالة وإنسانية تُخفّف عن المقهورين والمحرومين في المجتمع؟

العدد 1107 - 22/5/2024