أجنحة للحرية

بشار حبال:

وصلني صوتها موهناً وكتيماً: بابااااااااا! صوت عاجز، لم أكترث للأمر لأن ندى كثيراً ما تنادي بابا أو ماما في كل أمر، لكن صرختين متتاليتين خائفتين: بابا، بابا! أزالتا الشكوك من ذهني في أن هناك أمراً جللاً قد وقع، قفزت من فراشي بسرعة نحو مصدر الصوت، كانت ندى تقف مذعورةً أمام شيء ما، لم تنظر إليّ وأنا أتقدم نحوها، كان نظرها مثبتاً على مكان محدّد بخوف طارئ أصابها.

– ما بك ندى؟ ما الأمر؟!

– ريمي!

– ما به ريمي؟!

– بابا، لقد طار وأنا أنظّف القفص!

نظرت إلى المكان الذي أشارت إليه، العصفور ريمي يقف على طرف حوض الورود يتأمل بغرابة وضعه الجديد، ويحرك رأسه يمنة ويسرى، إلى الأعلى والأسفل، ينظر إلى محيطه الجديد الواسع جداً، كان يراقب ذلك الفضاء الرحب الموجود فيه لأول مرة في حياته، انتقل خلال ثوانٍ من مساحة القفص إلى رحابة اللامحدود، فضاء واسع وكبير جداً، وجد ريمي نفسه فيه، ماذا يفعل في هذا الفضاء؟،غريزته المتوارية بعيداً والتي ورثها عن أبويه وأجداده لم تقل له ماذا يجب عليه أن يفعل في هذا الموقف الصعب، هو لم يجرب سابقاً ولم يعلمه أحد ماذا يفعل في لحظة الحرية التي واتته فجأة، الخوف هو من كان يناديه وليست غريزة الحرية، بقي يراقب ويفكر، خائف مثلنا ومرتبك من المجهول، من المغامرة التي لم يجرّبها قطّ، عاش عمره بين أربعة جدران من الشباك المعدنية، وأبواب صغيرة موصدة يأتيه الطعام والشراب في أماكن محدّدة ووقت محدّد، يغرّد ما طاب له من الغناء بغريزته عن شيء يفتقده لكنه لا يعرفه.

في حيرته واستغرابه كنت أتقدم نحوه بهدوء السجان والعارف أن أي تأخر مني سيمنح ريمي فرصة للمغامرة والعبث بمصيره المجهول، بقي واقفاً ينظر إلي بقلق واضح، وبلحظة خاطفة أمسكت به، قلت له وابتسامة عريضة ترتسم على وجهي: أين تهرب يا ريمي؟! لقد أخفتَ ندى كثيراً. تنفست ابنتي الصعداء وارتاحت قامتها المرعوبة على العصفور، فتحت باب القفص وأدخلته من جديد إلى عالمه الذي ولد وتربى فيه، والذي لا يعرف غيره وفيه كان يعيش مساحة الحرية المرسومة له، والتي تجعل منه لعبة لطيفة نتسلى بها بعناوين مخادعة ابتكرناها لتبرير السجن والسجان.

قالت ندى: بابا لماذا لم يطِر العصفور بعد أن هرب مني؟ لقد سنحت له فرصة للحرية لماذا لم يستغلها؟!

قلت لها: بابا ريمي لا يعرف الطيران هو ولد وعاش في هذا القفص، جناحاه ضعيفان وغير مدرببن على الطيران، ولم يعلمه أبواه الطيران لأنهما أيضا لا يعرفان الطيران، هم مثله عاشوا أعمارهم داخل الأقفاص، إضافة إلى ذلك حتى لو طار بعيداً سيموت من الجوع لأن نوعية طعامه غير متوفرة في بلادنا، هذا العصفور من نوع الكناري وهو من جزر الكناري في المحيط الأطلسي. لقد أُنتزع أجداده من بيئتهم وحملوا إلى الأسر عنوة كي يتسلى به الإنسان، أي مخلوق لا يمكن له أن يعيش بحرية خارج بيئته، ليس المهم يا ندى أن يخرج من القفص، المهم أن يعرف كيف يطير لأن الحرية الحقيقية هي في الطيران والبحث عن طعامه وشركائه في الجماعة، هي تدريب يومي على صنع الحياة وليست لحظة هاربة من قبضة السجان.

قالت: لكنه لن يتعلم الطيران إذا لم يخرج من قفصه.

قلت: بالتأكيد في القفص لن يفطن أن له جناحين، الأسر يا بنتي يقتل الروح والغريزة لدى أي مخلوق وهو اعتداء على الحياة.

– قالت: من الأفضل له أن يموت جوعاً من أن يموت وهو حبيس القفص.

– قلت: ربما، لا أعرف. لكن الإنسان منذ وعي وجوده على هذه الأرض وهو يبحث عن جواب لهذا السؤال، أيهما أهمّ: الحرية أم الطعام؟!

– نظرت ندى إلى ريمي وقالت له: أنا بحبّك! فردّ عليها: … زيق!

العدد 1107 - 22/5/2024