الحضارة البيضاء.. وسقوط الأقنعة

د. صياح فرحان عزام:

مع بداية العملية العسكرية الروسية الدفاعية في أوكرانيا وخلالها، ظهرت دروس لافتة وهي دروس أخلاقية قبل أي شيء آخر، وقد كُتب وقيل الكثير عن ذلك، في ضوء تركيز الآلة الإعلامية الغربية تركيزاً كبيراً على تظهير صورة الروسي كعدو، وخطر على البشرية، إلا أن الوقائع تستدعي نظرة باردة إلى هؤلاء الذين نظروا بعين واحدة إلى الصورة، وحاولوا عن تقصد إخفاء الوجه الآخر منها.

كما هو معروف، دأبت الصحافة الغربية على تصوير العربي على أنه (ذاك) الذي يركب الجمل ويحمل العصا، وفيما ينطلق الغرب إلى الحضارة على ظهر صاروخ، يذهب إليها العربي أو البدوي على ظهر الجمل، ويكاد لا يقطع واحداً في المئة من المسافة التي قطعها الغربي، إلا أن وقائع التاريخ تؤكد نفاق هذه الصحافة وسياسات دولها.

تشير الإحصاءت إلى أن 81٪ من الحروب بعد الحرب العالمية الثانية قد شنّتها الولايات المتحدة، فيما تتوزع النسبة الباقية على أكثر من دولة.

وعلى الرغم من الممارسات الإجرامية المتوحشة التي قام بها الأمريكي والفرنسي وقبله البريطاني في فيتنام والجزائر والعراق وسورية واليمن، وعلى الرغم من أن هذه الدول الغربية كانت الرائدة في تجارة الرقيق، خاصة في إفريقيا، إلى حد تحويل البشر إلى مجرد حيوانات تباع وتشترى وتستخدم في أعمال قذرة، رغم كل ذلك، ظهر خلال الحرب الأوكرانية، بصورة فاضحة، الانحياز الغربي، من خلال التركيز على (علويّة وأفضلية) الرجل الأبيض على باقي الأجناس البشرية، والأبيض هنا لا يعني لون البشرة تحديداً، بل ذلك الرجل الذي استوطن في الغرب الأوربي، ومن ثم توسع واستوطن شمال القارة الأمريكية وانتقل بعدها إلى أستراليا.

في هذا التعريف تبقى كل شعوب العالم خارج التصنيف الحضاري، بل ربما تشكل خطراً على الحضارة البشرية.

إن هذه التوصيفات التي حُصرت بالرجل الأبيض لم تكن مجرد انعكاس (الوعي الباطني) لأناس تشردوا من منازلهم بسبب الحرب على سبيل المثال، بل لمثقفين وإعلاميين بات دورهم أكبر بكثير مما يجب وفي كبريات القنوات العالمية (سي. ن.ن، بي. بي.سي، ن.ب.سي) وغيرها.

فالرجل الأبيض هو الأشقر، وهو العيون الزرق، وهو العضو في الاتحاد الأوربي، وهو نوادي أوربا الغربية لكرة القدم، أما اللاعبون من ذوي البشرة السمراء أو السوداء أو اليابانية أو الكورية أو العربية أو حتى التركية، فليسوا سوى بيادق تخدم (اللاعب الأبيض)!

النوادي البيضاء (فيفا) هي مجرد تجمّع لنصرة المنتجات والأندية البيضاء، ولا يمكن لأحد أن يهضم قراراتها المستبعِدة لروسيا من بطولاتها، في الوقت الذي لم تحرك ساكناً أمام الحروب والغزوات الأمريكية في العراق وأفغانستان وسورية، وأمام اعتداءات كيان الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني وحصار غزة والحرب عليه، وإرسال أسلحة إلى أوكرانيا من دول مسالمة مثل السويد وفنلندا.

حضارة الرجل الأبيض تعني العولمة من أجل رفاهية امرأة شقراء بعطور كريستيان ديور، وترف ركوب سيارة مرسيدس في برلين ورولز رويس في نيويورك وما شابه ذلك من مظاهر لافتة وبراقة وخادعة.

حضارة الرجل الأبيض وصلت عنصريّتها الفاضحة إلى حد منع القطط الروسية من المشاركة في مسابقات ملكات جمال القطط في الغرب.

حضارة الغرب هي حضارة الإنكار التي كانت معروفة، ولكنها انفضحت في أعلى تجلياتها مع الأزمة الأوكرانية، الحضارة البيضاء تمنع دوستويفسكي وتشايكوفسكي من برامجها ودروسها في الجامعات والمعاهد والمسارح الغربية.

الحضارة البيضاء هي التي تسمح لأوكرانيا أن تنضم إلى الاتحاد الأوربي وتمنع على تركيا هذا الأمر، وأن تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وأن يستسلم كل من هو غير أبيض ولو كان أشقر لحضارة اللون الواحد.

باختصار، دروس أزمة أوكرانيا (عرّت) حضارة الأبيض، وكشفت عورتها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024