حول الأمن الإنساني

يونس صالح:

الأمن الإنساني مفهوم حديث نسبياً، جرى صوغه وتداوله في السنوات الأخيرة، وحظي باهتمام عالمي واسع، ولاسيما من جانب الأوساط والفئات المعنية بقضايا الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان.

يطلق بعض المفكرين على مفهوم الأمن الإنساني اسم أو مصطلح (الأمن الناعم)، وذلك لكونه يختص بصون كرامة الإنسان في تلبية احتياجاته الروحانية والوجدانية، وهو بذلك يتميز عن الأوجه أو الأنواع الأخرى للأمن المتعلقة بالحاجات المادية للإنسان، كالأمن الغذائي والأمن الاقتصادي والمائي والأمن العسكري وما شاكل ذلك.

لقد جرى تصنيف الأنواع المختلفة للأمن أو ابتكارها تباعاً، نتيجة للتطور التاريخي لحاجات الإنسان، وتزايد التحديات والأخطار التي يواجهها، سواء كانت من فعل الإنسان أو المجتمع (أخطار مجتمعية)، أو أنها صادرة عن تهديدات طبيعية أو بيئية، الأمر الذي يستلزم مواجهة هذه التحديات على أنواعها باعتماد سياسات وبرامج وآليات معينة من جانب الدولة والمجتمع وكذلك مؤسسات النظام الدولي. ومن جهة أخرى يعتبر مفكرون آخرون الأمن الإنساني بأنه مفهوم معني في الدرجة الأولى بأمن الأفراد، أو أمن المواطنين، وذلك تمييزاً له عن أمن الجماعة أو المجتمع أو الدولة بالمفهوم الواسع. ويستندون في ذلك إلى خلفية تاريخية معينة وواقع راهن معيشي في عدد من البلدان الأخرى، حيث جرى ويجري التضحية بأمن الفرد وحقوقه تحت ذريعة التركيز على ما هو أهم وأعم، وهي الحقوق المتعلقة بالمصلحة العامة، وهو مفهوم خطير للغاية ينطوي على الاستهانة بالحقوق الطبيعية للإنسان، ويضع مصيره في مهب الريح، كما تؤكد الكثير من التجارب والممارسات المُرّة في العديد من بلداننا العربية سابقاً وراهناً.

وفي ضوء التجربة التاريخية، يتضح أن الأمن الإنساني المنشود هو الأمن القائم على الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية للمواطنين واحترام حقوق الإنسان كما أقرتها المواثيق الدولية، كما أنه من ناحية أخرى يجسد الضمانة لتوفير الظروف والمستلزمات الكفيلة بممارسة الناس لخياراتهم باطمئنان وحرية ومن غير خوف أو وجل، فضلاً عن أنها تتيح الظروف للمحافظة على الفرص التي يتمتعون بها وحمايتها من خطر الضياع والتبديد في المستقبل، فالأمن الإنساني بهذا المعنى أو المفهوم هو الأمن المتمركز حول الناس ولمصلحتهم، وهو يستلزم تأمين الوسائل الضرورية لحماية المكاسب التي يجنيها المجتمع والأفراد لتعزيز قدراتهم وتوسيع خياراتهم وفق ترتيبات وأنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية، كما أنه- الأمن الإنساني- يستمد قوته وثباته من الاستناد إلى قبول أو توافق مجتمعي عريض وعبر مؤسسات وآليات مستقرة قادرة على احترام حقوق واستحقاقات المواطنين.

والواقع أن تحليل مفهوم الأمن الإنساني بصورة علمية ودقيقة يؤكد وجود مكونين أو ركنين أساسيين له، وهما يشكلان كل منهما مع الآخر، كياناً ومفهوماً واحداً ومتجانساً، وهنا يتعين معالجة هذين المكونين بشيء من التفصيل، وهما الأمن الإنساني بوصفه مجموعة حقوق أولاً، والأمن الإنساني بوصفه مجموعة مستلزمات وآليات ثانياً.

والحقيقة أن فكرة الحقوق في مفهوم الأمن الإنساني ترتكز على هدف كبير وقيمة إنسانية رفيعة، تتلخص بصون كرامة الإنسان، وهي حقيقة متأصلة في كل إنسان، ولا يمكن ولا يجوز التنكر لها أو الاعتداء عليها، وهذا ما جاء به وأكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، وتلخص هذه الوثيقة أهم الحقوق والاستحقاقات التي تتطلع إليها البشرية، وناضلت من أجلها خلال المراحل التاريخية السالفة، وأهمها- دون شك- حرية التفكير والتعبير والتجمع والعقيدة والحق في الحياة والأمن وغيرها، وقد استكملت هذه الوثيقة التاريخية بإصدار الأمم المتحدة لوثيقتين مهمتين أخريين هما: العهد الدولي المتعلق بالحقوق السياسية والمدنية الصادر عام 1966، وكذلك العهد الدولي الثاني المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عام 1976. إن هذه الوثائق وغيرها شكلت المنظومة العالمية لحقوق الإنسان، وفي هذا السياق يثار في كثير من الأحيان العديد من التحفظات بشأن الحركة العالمية لحقوق الإنسان، وإلصاق الشك والريبة في دوافعها ونشاطاتها، وذلك بالإشارة إلى ما يسمى بازدواجية المعايير والمواقف في سلوك بعض الحكومات والجهات الأجنبية، وهنا يتعين التمييز بين أمرين: بين حركة حقوق الإنسان ومبادئها باعتبارها حركة إنسانية أصيلة وهادفة لخير المواطن، والمحاولات الحاصلة لاستغلال مبادئ وشعارات هذه الحركة لأغراض مريبة ومرفوضة ومناهضة لمصالح المجتمع وتطلعاته، فالتنديد بازدواجية المعايير في المواقف أمر مشروع دون شك، والدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان والسعي لتحويلها إلى واقع ملموس حيّ ومصون في إطار مؤسسات وآليات دستورية وتنفيذية هو من أهم المطالب والضمانات الهادفة لتقدم المجتمع وإشاعة العدل والمساواة والتوازن والاستقرار في ربوعه. أما المكون الثاني للأمن الإنساني فهو المتعلق بالآليات والوسائل، ويتركز هدفه في بناء القدرات الإنسانية وتحريرها، ويشمل عدداً من التدابير والسياسات  الاستراتيجية التي توصلت إليها هيئات الأمم المتحدة، وأهمها تعزيز الرفاه الإنساني، وتوسيع القدرات البشرية وخيارات المواطنين، واحترام حقوق الأقليات والمرأة وتمكينها، أي تعزيز إمكانياتها، والواقع أن الحكم الصالح يتلخص باختصار في تعزيز قدرات المواطنين ونشر الديمقراطية، وذلك بخلق بيئة مؤسساتية وأنظمة تشريعية وقضائية وانتخابات تجري بصورة صحيحة ووفق رقابة شعبية مسؤولة، وهنا تبرز أيضاً أهمية الدور الذي يلعبه المجتمع المدني بمختلف منظماته ومؤسساته في تحقيق الأمن الإنساني.

ولا شك في أن بلوغ الأمن الإنساني وتجسده عملياً وحمايته في إطار من احترام القيم والآليات التي أتينا عليها هو ليس فقط حاجة إنسانية بالغة الأّمية، بل إنه ضرورة لا غنى عنها لأي تطور اقتصادي واجتماعي وثقافي مطّرد وسليم.

 

العدد 1105 - 01/5/2024