للضيافة أصولها

إيمان أحمد ونوس:

فرضت العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية كافة حالة الضيّافة والاستضافة لأسباب مُتعدّدة، قد يكون بعضها ضرورياً لا مفرّ منه. فقد عاشت قبائل العرب عادات ثابتة لا يمكن تجاوزها فيما يتعلّق بالضيافة، وهي أن الضيف يمكثُ ثلاثة أيام بلياليها مُعزّزاً مُكرّماً لا يُسأل عن سبب الزيارة إلاّ بعد انقضائها، وهذا دليل واضح على أهمية الضيف وضرورة إكرامه.   ورغم انتقال الإنسان إلى الحياة الحضرية التي عاشت بموجبها الأسرة في بيوت كبيرة تجمع العائلة كلها (الأب مع الأبناء وعائلاتهم) فقد حافظت على عادات الضيافة، وذلك بتخصيص غرفة تحتوي على أساسيات الإقامة للضيوف القادمين من أماكن بعيدة، إضافة إلى وجود غرفة استقبال للضيوف الزائرين لوقت قصير تُسمّى في بعض المناطق: (المَضافة)، كما عاشت الأرياف حالة ما زال بعضنا يتذكّرها ألا وهي وجود (المنزول) المُشتقّة من كلمة (نُزُلْ) – ومنها جاءت تسمية نزلاء الفنادق- في بيت مختار القرية، وهو مُخصّص لاستقبال الضيوف المحليين أو القادمين من أماكن أخرى. لكن، مع التطور الحاصل على نمط العلاقات الاجتماعية بحكم تغيّر نمط الحياة بمختلف أوجهها، إضافة إلى تغيّر نمط السكن والانتقال إلى بيوت صغيرة تتناسب وحجم العائلة التي باتت أصغر من ذي قبل، فقد فرض هذا الواقع تغيّراً جوهرياً في نمط العادات والعلاقات الاجتماعية، خاصّة في المدن الكبيرة التي أنشأت ما يُعرف بالفنادق المُختصّة باستقبال القادمين إليها من أماكن بعيدة بقصد السياحة أو أشغال أخرى.

غير أن هذا التطور أو الانتقال عبر مراحل مُتعدّدة على نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية لم يُغيّر جوهر الذهنية المجتمعية القائمة على التشبّث ببعض العادات التي لا يمكن أن تكون كلها إيجابية، لاسيما لأبناء الأرياف أو المدن الصغيرة التي لم تخرج عن النمط الريفي في علاقاتها رغم التطوّر العمراني وما شابه، ولا شكّ أن الضيافة من بين هذه العادات التي ما زالت سائدة بين أفرادها وبمفهومها السابق حرفياً، بمعنى وجوب استقبال القادمين من هذه المناطق إلى المدينة لأيّ سبب كان حتى لو لم تكن هناك إمكانية مادية أو معنوية أو حتى نفسية لدى المُضيف الذي سيرزح ولا شكّ تحت وطأة ضغوط اجتماعية مُقلقة بسبب الخوف من التشهير والإساءة أو نعته بالبخل وما شابه، ممّا يُلقي به في براثن النبذ الاجتماعي دون تبيّن الأسباب.

وإذا ما أردنا الحديث عمّا عاناه المجتمع خلال سنوات الحرب الماضية، فإننا ولا شكّ سنتحدث عن واقع فرض نفسه وبقوة على الغالبية من الناس، فقد اضطّر البعض منهم لهجر مناطقهم الساخنة واللجوء إلى أقارب أو معارف في المناطق الآمنة، مثلما فرض على البعض الآخر استضافة هؤلاء المُهجّرين من منطلق التعاطف الإنساني الذي يسود المجتمع في مثل هذه الحالات، (وهذا يُذكّرنا باستضافة غالبية السوريين للبنانيين الهاربين من لهيب حرب تموز عام 2006 وكيف قابل بعضهم هذه الاستضافة بالعرفان بينما قابلها البعض الآخر بالنكران). ففي بداية الحالة السورية بلغ التعاطف ذروته بين الناس من مختلف المناحي، لكن الاستضافة احتلت الحيّز الأكبر سواء في البيت الواحد مع أصحابه أو في بيوت أخرى فارغة أو قيد الإنشاء مثلاً.. ما أعطى المجتمع سمة إنسانية لم يعشها منذ سنين طويلة. لكن للأسف لم يلحظ البعض الجانب الإنساني أو يحترمه، بل أظهر سلوكيات ومواقف لا تنمُّ عن احترام لتلك الإنسانية، سواء من حيث الإساءة للمكان أو للمضيفين، والتطرّق لخصوصيات كان يجب أن تُحترم ليبقى للعلاقة الاجتماعية السائدة ألقها وحميميتها. وهذا ما دفع بالبعض لاحقاً للإحجام عن هذا الاندفاع العفوي الذي أتعبهم وجعلهم ربما يخسرون أقرب الناس، ما أفقد الإنسانية أجمل ما فيها من تعاطف واستضافة خاصة في أوقات عصيبة وظروف قاهرة كظروف السوريين، في الوقت الذي كان من الممكن تعزيز تلك القيم بالاحترام المتبادل ما بين الضيف والمضيف وعلى مختلف الصُّعُد.

العدد 1107 - 22/5/2024