هل تتحول آسيا الوسطى إلى شرق أوسط جديد؟

د. صياح فرحان عزام:

تواجه كازاخستان أسوأ اضطرابات منذ استقلالها عام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، فقد شهدت عام 2011 تظاهراتٍ عمالية في مدينة جاناوزن احتجاجاً على تدنّي الأجور وظروف العمل الصعبة، ولكن جرى احتواؤها آنذاك.

التظاهرات الأخيرة انطلقت من هذه المدينة نفسها، بسبب ارتفاع سعر الغاز المسال الذي يستخدمه المواطنون في سياراتهم، ولكن ما يلفت النظر هو سرعة تحول التظاهرات إلى أعمال عنف وانتشارها إلى بقية المدن، وتطورها إلى مواجهات وتخريب، والاعتداء على الممتلكات العامة، والاستيلاء على مؤسسات رسمية ومطارات في مدينتي ألماتا والعاصمة أستانا، وظهور مسلحين بأعداد كبيرة (أكثر من عشرين ألفاً) أدهشت المراقبين، وطرحت سؤالاً مهماً: من يقف وراء ذلك؟

لقد أكدت تقارير المراسلين تحول مدينة ألماتي إلى ساحة معارك، وشوهدت أبنية وعربات عسكرية تحترق، إضافة إلى مقتل أكثر من عشرين عنصراً من القوات الحكومية ونحو 30 مسلحاً، الأمر الذي استدعى إعلان حالة الطوارئ واستدعاء قوات من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم روسيا وأرمينيا وطاجكستان وبيلاروسيا وقرقيزيان، وهذا مؤشر على ما تشكله كازاخستان من أهمية أمنية لروسيا التي تمتد حدودها معها إلى نحو 7500 كم، وهكذا يمكن القول إن وسط آسيا يتحول إلى شرق أوسط جديد، لأنه غني بالثروات من نفط وغاز، فالغرب ينظر إلى وسط آسيا على أنه منجم للثروات، وبالتالي أصبح محط أنظاره.

إذاً، هذه التظاهرات وما تبعها من عنف وقتل وتخريب كانت (شماعة) لأهداف أخرى، ما يعني أن هناك خطة مبيّتة تجلّت في سرعة انتشار السلاح والأعداد الكبيرة من المسلحين (أكثر من 20 ألفاً) حسب التقارير.

وكما ذكرنا قبل قليل عن الحدود الطويلة بين روسيا وكازاخستان (7500 كم)، توجد لروسيا أيضاً قاعدة (بايكونور) الفضائية في كازاخستان، بمساحة تزيد عن 111 كم 2 استأجرتها موسكو حتى عام 2050 مقابل 7 ملايين روبل سنوياً، إلى جانب الحاجة الروسية لتأمين خطوط النفط والغاز، ووجود 4 ملايين كازاخي من أصل روسي.

وفي الحسابات يقدّر خبراء سياسيون وعسكريون أن الأحداث الأخيرة في كازاخستان قد تكون (الشرارة) لاندلاع حرب في آسيا الوسطى، إن لم يتم التوصل إلى اتفاقات جدية.

وعلى ضوء ما تقدم يمكن تسجيل بعض الملاحظات والاستنتاجات منها:

أولاً- يبدو أن الصراع الأمريكي – الروسي سينتقل من أوكرانيا إلى كازاخستان، علماً بأن مآلات هذا الصراع غامضة حتى الآن، في الوقت الذي دخلت فيه كازاخستان حالة من الفوضى والاحتجاجات والصدامات تجاوزت السؤال المطلبي الذي طرحه المتظاهرون في بداية الأمر.

ثانياً- تعتبر كازاخستان من أهم وأكبر دول آسيا الوسطى، والصراع حولها سيكون أشد تعقيداً من الصراع في أوكرانيا، فروسيا لها شروطها، ولن تسمح بأي شكل بأن تتحول كازاخستان إلى شوكة في خاصرتها مهما كلفها الأمر.

ثالثاً- ومن الواضح، كما يشير خبراء ومحللون سياسيون، أن (ربيع آسيا) قد بدأ في كازاخستان في هذا العام 2022 وأسماه البعض (الربيع الإسلامي) الذي يتلو (الربيع العربي)، وليس من المستبعد أن واشنطن بعد انسحابها من أفغانستان، افتتحت ملفاً جديداً من شأنه أن يؤدي إلى تهجير الشعب الكازاخستاني على غرار ما فعلته في سورية والعراق وليبيا واليمن، وذلك كله تحت شعارات كاذبة: (إسقاط ما تسميه أنظمة ديكتاتورية، ونشر الحرية والديمقراطية)، ولكن المحصلة كانت مأسوية، فالشعوب هي التي دفعت الفاتورة الباهظة لهذه التدخلات الغربية من دماء أبنائها ومن ثرواتها ومعاناتها.

رابعاً- يلاحظ من خلال أحداث كازاخستان أن الأسلوب نفسه يتكرر: في البداية تظاهرات سلمية، تليها أحداث عنف، ثم عمليات مسلحة واغتيالات، ومن ثم بحث إمكانية التدويل، وبالتالي فإن (الطاحونة الأمريكية) شرعت في خططها هذه (تهجير الشعوب وتدمير الدول المناهضة لسياسة واشنطن ومصالحها) منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003، ثم استعاضت عن أسلوب الغزو العسكري المباشر بتفجير الدول من الداخل وتدويل أزماتها لإضفاء الشرعية على التدخلات الغربية هذه.

خامساً- إن تركيا ليست غائبة عن أحداث كازاخستان الأخيرة من بوابة (منظمة الدول التركية)، فأنقرة تسعى لإيجاد فضاء جيوسياسي لها في آسيا الوسطى، للتخلص مما تسميه النفوذ التاريخي الروسي الممتد فيها منذ زمن الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة.

سادساً- يجدر أيضاً أن نذكر أن الصين أكدت أن وراء أحداث كازاخستان أيادٍ خارجية، وبالتأكيد هي تقصد الولايات المتحدة وحلفاءها، وإن لم تسمِّهم بالاسم.

أخيراً نقول: في ضوء هذا السيناريو الجديد الذي اخترعته واشنطن، والشبيه باختلاقها أزمة أوكرانيا لإرباك روسيا والصين، تبقى كل الاحتمالات حوله واردة: المزيد من التوتر أو الحرب، إلا إذا توصل الطرفان الروسي والغربي إلى اتفاقات محددة تنهي هذا السيناريو، ومع هذا هناك عوامل داخلية أدت إلى أحداث كازاخستان، منها وجود ظاهرة الفقر لدى قطاعات شعبية، وتجاهل من السلطات لبعض المطالب العادلة، والتهاون حيال نشاطات جمعيات وتيارات موالية للغرب، وهذا ما استغلته الدول الغربية والطابور الخامس وجماعات إرهابية.. ولكن بالتأكيد يبقى للعامل الخارجي الدور الأساسي في تفجير الأوضاع على هذا النحو.

 

العدد 1105 - 01/5/2024