أقسم لك إنها لا تأكل كثيراً!

قصة قصيرة | بقلم أيمن أبو الشعر:

كانا يختلفان بمرح أحياناً: … فادية ستكون محامية، يقول أبو غسان، بل مهندسة، تردّ أم غسان وتبدأ بعراك زوجها بمرح! كانت أسرة سعيدة بكل المقاييس حقاً رغم ضيق الحال نسبياً!

تعوّد أبو غسان، الموظف البسيط، وأم غسان، ربة المنزل، وخاصة أثناء (فترة التواصل الحميمي) أن يقضيا ساعة أو ساعتين وهما في الفراش يناقشان ويخططان لمستقبل جميل براق لأولادهما الثلاثة، وكانا يعشقانهم حقاً، ويفكران كيف سيقدمان لهم كل ما يستطيعان.. وكانا يحلمان أن تغدو سلمى طبيبة، وفادية مهندسة ديكور لأنها تحب الرسم، وغسان الصغير طياراً في المستقبل، وهو حلم أبيه الذي لم يتمكن من تحقيقه لكونه اضطرّ للعمل وترك الدراسة.

اختلفت الأمور جدياً في السنوات الأخيرة خاصة بعد أن دخلت سلمى ثم فاديا المدرسة، وباتت أم غسان تساعد جارتها في صنع أقراص الكبة واليلنجي- ورق العنب المحشي لمطعم زوج جارتها لقاء مبلغ بسيط كان يساعد الأسرة قليلاً.. كانت تتفنن في صف الكبة واليلنجي، وتشتهي أن تطعم أولادها منها ولو مرة واحدة.. لكن نفسها العفيفة كانت تمنعها حتى من إخفاء ولو قطعة واحدة عدا أن جارتها كانت تسلمها المواد محسوبة الوزن وتستلم كما سلمت، وتحاسب بالقطعة! ولكن ظهر أم غسان بات يؤلمها بشكل لا يمكن تحمله، وعليها أن تستلقي كثيراً.. والأجر يكاد لا يكفي ثمنا للدواء!

بات أبو غسان يعمل منذ الفجر بغسل سيارات (الأكابر) في الحي غير آبه بسمعته كموظف في الدولة.. إذ كان لا بد من قرطاسية وألبسة ولو بسيطة للأولاد، ولا بد من طعام! والوضع الاقتصادي في البلد من سيئ إلى أسوأ!

خففت أم غسان الطعام مضطرة إلى وجبتين في اليوم فقط والأولاد صابرون يعوضون قليلاً بشرب الماء. كان أبو غسان وأم غسان يقولان سابقاً حين يشاهدان الأولاد يأكلون بشهية: (صحتين!) ويبتهجان.. والآن هما يخففان من طعامهما قصداً لكي يكفي الأولاد، وبلا شعور يدققان عدد اللقيمات التي يتناولها أولادهم.. ولا يدخل اللحم بيتهم أبداً.. أحياناً يشتري أبو غسان كيلو غراماً واحداً من عظم الدجاج الذي أزيل عنه اللحم تماماً، والذي كان يرمى في القمامة، ثم بات يباع بسعر بخس كطعام للكلاب والقطط، ثم ارتفع سعره بعد أن تعود عليه الكثير من الناس للحساء، وظل طعام أسرة أبي غسان الرئيسي الخبز والزعتر وأسوأ أنواع الزيتون، وقليلاً من اللبنة في أحسن الأحوال.. والبيض بشكل نادر أيضاً.. حتى الشاي بات لونه أشبه بالزهورات.

اشتدت الأزمة، وتصاعدت الهموم وغابت السعادة عن المنزل رغم أن سلمى وفادية من المتفوقات، فقد انتقلت سلمى إلى الثانوي وفادية إلى الإعدادي بعلامات عالية لم تجد ترحيباً لدى الأبوين الغارقين في الهموم.. ودخل غسان الذكي في الابتدائية.

كل شيء يزداد سوءاً، يا إلهي! – هتف أبو غسان وتابع-من أين جاءتنا الكورونا أيضاً؟ زد على ذلك أن أحداً لم يعد يطلب غسل سيارته، إذ قلّما يستخدمونها بسبب قلة البنزين، وجارتك لم تعد توصي بصنع الكبة واليلنجي.. هل نخفف الوجبات إلى وجبة واحدة؟ وسلمى مريضة ويجب أن نؤمّن الدواء! الأفضل لي أن أموت ما دمت لا أستطيع تأمين حتى الطعام لأولادي! -صرخ أبو غسان ورفع عن نفسه الغطاء وتوجّه إلى المطبخ.

خافت أم غسان أن يفعل بنفسه شيئاً، فلحقت به تهدّئه قائلة:

-بل الأفضل أن أموت أنا، فيخفف ذلك من المصروف.. أنت المعيل وكيف للأولاد من دونك؟

أتدرين لماذا أتألم هكذا – قال أبو غسان بحرقة-لأن أحد الموظفين ماتت ابنته الكبرى وعزيناه، فقال بحزن: (على كل ستخفف بموتها المصروف، فقد كانت تأكل كثيراً!)، وعلق الموظف الملتحي قائلاً: (هذه رحمة من الله، ماتت لكي يتمكن أولادك الآخرون من الأكل، وتتمكن أنت من أن تصرف عليهم). فجأة لاح لي أن سلمى قد تموت وتخفف المصروف.. وتذكرت أنها تأكل كثيراً، لكني خرجت من الغرفة، ولطمت وجهي بقوة لكي تغادرني هذه الفكرة!

قالت أم غسان بهلع: أتدري أن سلمى اقترحت عليَّ أن تترك الدراسة، وتقوم بحفر الكوسا وصنع الكبة، فقلت لها لم تعد جارتنا حتى توصي على ذلك.. أقسم لك إنها باتت تأكل قليلاً حتى أن مدرساتها بتن يسألنها لماذا غدوت شاحبة هكذا؟! وقد داخت في المدرسة أمس! أؤكد لك أنها لا تأكل كثيراً، بدأت أم غسان تبكي وهي تقول: أقسم لك إنها باتت تأكل قليلاً!

– حضن أبو غسان زوجته وقد دمعت عيناه وقال – نعم، نعم إنها لا تأكل كثيراً.. ما أحقر أن يكون موت أحد الأبناء حلاً مخففاً! في زمن المجاعة وكورونا!

العدد 1105 - 01/5/2024