ديك (الحرّ) يعاود الصياح

بقلم – أيمن أبو الشعر:

كان جمال مشهوراً في القرية بلقب (أبو الزُّلف) لكونه يشدو مواويله بصوت شجي كل ليلة تقريباً بعد أن ينتشي من الشراب، ويصفه أهالي القرية بالحُرّ لأنه يقف ضد المختار، لكن معظمهم كانوا يتحاشونه في العلن، ويحبونه سراً، وقد رفضوا تزويجه من إحدى بناتهم خوفاً من المختار الذي كان يعتبره مخرباً، ومخالفاً للعرف الاجتماعي وتقاليد القرية، وكان يصفه بالسكّير الكافر، لأنه لا يشارك في أية طقوس دينية، ولا يحضر أي نشاط أو احتفال للمختار على الإطلاق، وهو يحقد عليه لأنه كان يسخر من المختار علناً ويلقبه بـ(بيّاع المازوت)، ويفضح بأقاصيصه الذكية صفقاته، وغناه الهائل من بيع المازوت الذي كان يجب أن يستفيد منه سكان القرية والقرى المجاورة، بل ويحرض عليه وعلى سلطته المطلقة، ويصف الخاملين الذين لا يسعون لتغيير واقعهم بأن (عضو العنّين أفضل منهم)، إلا أن العديد من السكان كانوا يزورونه خلسة، ويتمتعون بأحاديثه، وخاصة طبيب القرية الذي كان يعتبره مثل ابنه لكنه كان يخشى المختار.

كان جمال كما يقال (خفيف الدم) يأسر سامعيه، ويؤكد بعض الجيران أن الحيوانات كانت تنفذ ما يطلبه منها، وأنهم كانوا يسمعونه وهو يتحدث إلى حيواناته وكـأنها كائنات بشرية، ويحكي لها نكاتٍ فتضحك ضحكات غريبة وتتقافز بل وتقهقه بصوت عالٍ، وانتشرت إشاعات تقول إنها من الجان، وأن جمال نفسه من الشياطين، وكان جمال يضحك ويقول: (حين يغدو بعض البشر أغبى وأغلظ وأقسى من الحيوانات يكون الأنس مع الحيوانات أجدى وأفضل، وتبدو الحيوانات أرق وأوفى من الإنسان الذي لا يريد أن يغدو حرّا نقيّاً).

كان لدى جمال كرمة عنب صغيرة يعتاش منها، فيها حظيرة تضم عدة عنزات وتيساً وبضع دجاجات وحماراً وديكاً لا يصيح عند الفجر بتاتاً، بل ينزوي في زاوية القن عند الشروق، والحقيقة أن ديكه (الأخرس) كان يصيح كل يوم بترنيمة مميزة ويوقظ القرية كلها، وينتفش بعد ذلك مع طلوع الشمس مقتنعاً أن الشمس تشرق تحديداً لأنه يصيح عند الفجر، وأنه بصياحه يساعد الناس على الاستيقاظ والتوجه إلى العمل بنشاط كل صباح، ثم يمشي متبختراً ويقفز فوق الدجاجات واحدة تلو أخرى، وتتكاثر الصيصان بعد حين. الجميع كانوا يحبون الديك ويشكرون جمال على مساهمته هذه عبر ديكه إلا المختار الذي كان يكره الديك لأنه يزعجه في وقت مبكر، ويتيح للقرويين أن ينجزوا أعمالهم بوقت مبكر، وأن يقيموا اللقاءات والاجتماعات ويشرعوا بالتخطيط لتغيير واقعهم، فأرسل المختار مجموعة من رجاله وخطفوا ديك جمال قبيل الفجر، وغطوه بكيس أسود ولفوا منقاره بشريط لاصق، وأخفوه في القبو المظلم ولم ينزعوا الكيس واللاصق إلا بعد عدة أيام، وعندما باتت الشمس في ذلك اليوم في كبد السماء لكي يثبتوا له أن الشمس لا يعنيها صياحه، وأنها تشرق دون أن تعيره أي اهتمام، وذلك لكي يحطموا ثقته بنفسه ويُذلوا كبرياءه، ويضمنوا أنه لن يعيق نوم المختار بعد الآن ولن يزعج سائقي صهاريجه، وأن الناس لن يكون لديهم الوقت الكافي للتفكير والتخطيط بتغيير واقعهم، وأعادوه إلى قنّه بعد أن أصيب بعقدة نفسية وفقد النطق، ولم يعد يوقظ أهل القرية للعمل باكراً، ولم يعد يقفز على الدجاجات.

عضت جمال عند حالبه -وهو مقرفص ينزع العشب- أفعى سامة كان قد رماها أحد رجال المختار، فركض إلى غرفته وهوى فوق سريره وفقد الوعي، لاحظت الحيوانات ما جرى.. عندئذٍ حدث شيء مذهل، فقد ضجت الحيوانات التي أحبها وأحبته، وقام التيس بنطح باب الحظيرة بقوة فخلع القفل، وخرجت العنزات والحمار والدجاجات بما يشبه المظاهرة في حارات القرية إلى أن وصلت إلى بيت طبيب القرية، وارتفع صياحها وصراخها، وراح الحمار يركل الباب وشرع التيس ينطحه، فهم الطبيب وتوجه بسرعة إلى بيت جمال في مزرعته الصغيرة، وكان المشهد مثيراً جداً إلى درجة أن حشداً كبيراً من سكان القرية توجه إلى بيت جمال وبضمنهم النساء، دخل الرجال إلى غرفة جمال وتحلقت النساء حول الشباكين اللذين حرص جمال على أن يكونا كبيرين حين بنى غرفته، وأدرك الجميع أن جمال قد فارق الحياة.

لم يستسلم الطبيب، وأعطى جمال على الفور عدة حقن مضادة للسم، وحقنة منشط قوي، وجرح مكان أنياب الأفعى وضغط بقوة لإخراج السم حتى أنه قام بمص مكان الجرح وبصقه عدة مرات، فجأة ارتفع الشرشف فوق بطن جمال، وانتصب عضوه الذكري، فتصاعدت تعابير خجولة وأصوات دهشة عند النساء اللواتي أدرن وجوههن، وردد بعض الرجال: (هذه إشارة عُليا لإدانتنا لأننا أطعنا المختار ورفضنا تزويج جمال من إحدى بناتنا، ولم نسانده ونحن نعلم أن المختار هو الذي تسبب بفقدان الديك للنطق والفحولة). وقال آخر بل إن انتصاب عضوه هو صفعة لرجال القرية بمعنى أن عضو الحر حتى بعد الموت أفضل منا، فقد كان يصف المستسلمين للمختار بـ(عضو العنّين)!! وحين بدأ الرجال بتغسيل جمال تحضيراً لدفنه هلّل البعض وصاح أحدهم: (إنه يتحرك من جديد)، وانتقل الخبر بسرعة، فزغردت النساء، وأعلن الطبيب أمام الجميع أنه يوافق على زواج جمال من ابنته، وتحول المأتم إلى عرس.. في صباح اليوم التالي عاد الديك ليصيح من جديد، وراح يقفز فوق الدجاجات بنشاط، ونهض سكان القرية باكراً للعمل بنشاط وحيوية، وتحول بيت جمال إلى مقصد للنشطاء، وبدؤوا حتى بالتخطيط العملي لتغيير الواقع.

العدد 1105 - 01/5/2024