ما هو جوهر التجربة الصينية للتنمية المستدامة؟

د. صياح فرحان عزام:

في ضوء صعود الصين إلى منصات القيادة العالمية، تظهر تساؤلات مهمة منها: هل تخلّت الصين عن اشتراكيتها واختارت السير في طريق واحد مع الرأسمالية؟ أم ثمة رسائل جديدة وأساليب عمل مختلفة عن السابق وطريق غير مطروق سعت لاتباعه؟ ولعل ذلك ما أوقع كثيرين في حيرة من أمرهم.

يجمع العديد من المحللين السياسيين وخبراء الاقتصاد على أن التجربة الصينية للتنمية المستدامة تجربة متميزة، وناجحة، وأن من يدقق فيها يرى أن جوهرها يكمن في روح الصين المبثوثة في كل مكان، وهي تمثل الامتداد التاريخي الذي حاولت الزعامة الصينية تجديده وانبعاثه كجزء من الخصوصية الثقافية الصينية.. وعلى الرغم من انغماس القيادة الصينية لسنوات في الشيوعية الراديكالية، إلا أن هناك ما كان يجرها باستمرار نحو تراثها الحضاري، وليس عبثاً قول الرئيس شي جي بينغ: (إن من يحاول الوقوف ضد تقدم الصين سيصطدم بسور من الفولاذ)، وهي استعادة مقصودة لسور الصين العظيم، ولكن لبشرٍ من لحم ودم قوامهم مليار و400 مليون نسمة.

إن مصادر القوة الأساسية للنهضة الصينية مهندسة بدقة وإحكام، وفقاً للفلسفة والحكمة القديمة القائمة على العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، متشابكة مع استمرار الدور المركزي للحزب الشيوعي وهيمنته على المفاصل الأساسية، علاوة على انضباط صارم لتوجهات الدولة، ويمكن أن يطلق عليها أو أن تكون نسخة جديدة من الشيوعية ذات العلامة الصينية أو الطابع الصيني، والتي جمعت بين البعد التاريخي القومي وشكل جديد من رأسمالية الدولة أو شيوعية السوق، وذلك في إطار حيوية نشطة وإدارة حازمة ورشيدة لتأمين الريادة عالمياً، خاصة في عصر العولمة.

وقد وضعت اللبنات الأولى لذلك بالانفتاح نحو اقتصاد السوق والتحديث وإجراء إصلاحات وتقليص معدلات الفقر، بحيث انتشلت به الصين أكثر من 770 مليون إنسان من الفقر دون تهميش دور الحزب رائد مسيرة الألف ميل، والمقاوم للاحتلال الياباني، وقائد ثورة عام 1949، مع تفعيل الديناميكية الاقتصادية بتوجيه منه، باعتباره قوة دافعة وموجهة للطموح الاستراتيجي.

لقد قررت الصين الطريق المناسب لحجز موقعها الاستراتيجي في سلم التقدم العالمي، وليس عبثاً أن التقديرات العالمية المعتمدة تشير بوضوح إلى أنها في عام 2030 ستتصدر الاقتصاد العالمي، وهي اليوم منافس كبير وحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول الضغط عليها بوسائل مختلفة، سياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها، حتى إنها شددت عليها العقوبات مؤخراً، خاصة في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وتابع الرئيس جو بايدن السير على هذا الطريق، الأمر الذي جعل العلاقات بين البلدين فاترة، ومتوترة أحياناً.

لقد تطورت الصين بقفزات هائلة من خلال الانفتاح الاقتصادي وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي انتقلت من الوسط الزراعي إلى الوسط الصناعي، وتعزيز دور الطبقة الوسطى.. كذلك سعت القيادة الصينية إلى دعم حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، وأقرت التعددية والتنوع، واعترفت بحقوق المجاميع الثقافية، سواء الدينية أو الإثنية أو اللغوية.

إذاً، يمكن القول إن القيادة الصينية لم تتخلَّ حتى الآن عن فلسفتها التي تستند إلى مفهوم يعتبر الحريات الفردية جزءاً لا يتجزأ من تحرر المجتمع والحريات الجماعية، خلافاً للطرح الليبرالي الرأسمالي الذي يعتبر الحرية الفردية جزءاً من متطلبات النسق الاجتماعي.

باختصار.. مازال الحبر الصيني يكتب حتى الآن بريشة الحكمة القديمة المغمسة بالماركسية ذات النكهة الصينية الخاصة، المنتجة لعقول صناعية وتكنولوجية ماهرة ترمز إلى التنّين الصيني في نهضته العملاقة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024