النور في ذكراها العشرين

محمود هلال:

كلفني الرفيق بشار المنيّر (رئيس التحرير) بالكتابة عن الذكرى العشرين لإعادة إصدار (النور)، هذه المناسبة الغالية على قلبي، ولقد أعادني بهذه المناسبة عشرين عاماً إلى الوراء إلى أيام الصبا والشباب، وعادت بي الذاكرة إلى 13/5/2001، أعادني لأتذكر رفاقاً وأصدقاء أعزاء، منهم من غادر هذه الدنيا الفانية_ لأرواحهم الرحمة والسكينة والسلام، ومنهم مازالوا أحياء يرزقون، وأتمنى لهم العمر المديد وموفور الصحة والعطاء المثمر، وأتذكر أحداثاً ومواقف مازالت ماثلة وحاضرة في ذاكرتي.

ما زلت أذكر عصر ذلك اليوم الذي جرت فيه طباعة العدد الأول من (النور) بعد توقف قسري دام أكثر من أربعين عاماً منذ زمن الوحدة السورية المصرية عام 1959. أذكر كيف توافد الرفاق والزملاء آنذاك إلى مبنى مطابع الوحدة في جريدة (الثورة)، وأذكر منهم الرفيق الراحل دانيال نعمة الذي شغل منصب رئيس التحرير، ويعقوب كرّو، وحنين نمر، ود. إبراهيم قندور، وريمون بطرس، وخالد مجر، ورفيق قوشحة، ومحروس شيخ الشباب، وبرهان عكو، وياسر الشيخة، وعدد من العاملين في المطبعة (أعتذر إن نسيت أحداً لم يرد ذكره)، وكيف كان الجميع يراقب ويشاهد دوران صفحات (النور) على الطابع، وأذكر تماماً حين علا التصفيق وارتسمت البسمة على الوجوه، عندما حدثت الولادة وأطل المولود الجديد برأسه، حينئذٍ بدأ الكل يتناولون الأعداد الساخنة الطازجة ويتلمسونها ويقلبون صفحاتها، ويشمّون حبرها الندي. وما هي إلا دقائق حتى انتظمت الطباعة والألوان، وبدأت (النور) تُجمع رزماً على الطاولة، بعد لك انفضّ الجميع وكلٌّ يحمل طائره في عنقه وأعداده في يمينه، وراحوا يستعدّون لتحضير العدد التالي، وهكذا عادت (النور) جريدةً سياسية ثقافية أسبوعية تصدر صباح كل أحدٍ (وفيما بعد صباح كلّ أربعاء)، وتتصدر واجهات الأكشاك ومحلات بيع الصحف والمجلات، وتوالت الأعداد وتوالت السنون.

الاستنفار الذي سبق صدور (النور) من قبل قيادة الحزب وكوادره العاملين في صحيفة (نضال الشعب) واللقاءات والمشاورات التي جرت مع كتاب ومثقفين وصحفيين يعملون في الصحافة السورية، ومع أصحاب الخبرة في الشأن الإعلامي، مازال حاضراً في ذهني، وأذكر كيف تحولت مكاتب جريدة (النور) إلى ورشة عمل تعمل ليلاً ونهاراً لعدة أسابيع، لبحث القضايا والأمور التي تخص الماكيت والصفحات واللوغو والإخراج وقضايا فنية ولوجستية أخرى.

أذكر كيف تعرفنا على الزميل العزيز الأستاذ نصر الشيخ علي (مخرج الصحيفة في مركز الفوال)، الذي واظب على إخراجها منذ العدد الثاني بكل مهنية واقتدار، ومازالت الأيام التي كان يتم فيها إخراج العدد خاصةً في أعدادها الأولى عالقة في ذهني، ساعات وأيام كنا نقضيها نحن والرفيق الراحل ريمون بطرس المخرج السينمائي الذي أعطى (النور) حينذاك جلّ وقته واهتمامه، وكيف كان يمتد العمل حتى ساعات الصباح، وما يشوبه من نكات تضفي المرح وتلطف الأجواء وتكسر الروتين والملل.

لقد حملت افتتاحية العدد الأول من (النور)، التي كتبها الرفيق الراحل يوسف الفيصل (الأمين العام للحزب آنذاك): (صحيفة (النور) هي صحيفة لكل السوريين، لكل ألوان الطيف الوطني في المجتمع، تشكل قوس قزح واحداً تصب كلها في بؤرة واحدة هي بؤرة الوطن. ومن هذا المنطلق نحاول أن تكون (النور) فسحة للرأي والراي الآخر والحوار المسؤول.

إننا نفتح صدر صحيفتنا لممثلي الثقافة الوطنية والفكر التقدمي باتجاهاته المختلفة، الماركسية والقومية، وكذلك للفكر الديني المستنير، الذي يرفض الظلامية. ونرحب بممثلي الحركة النقابية والفلاحية والمهنية، ورجال الصناعة الوطنية والعاملين على تحقيق تنمية اقتصادية صحيحة.

(النور) هي صوت المستضعفين المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية، صوت العامل والفلاح والمثقف والمبدع ورجل العلم. إنها صوت المدافعات والمدافعين عن حقوق المرأة ولرفع كل أشكال الحيف عنها، وصوت الشباب المطالب بظروف أفضل من أجل دور أكبر).

وهكذا كانت جريدة (النور) حقاً، شرعت أبوابها وفتحت صفحاتها لكل الأقلام الحرة والوطنية ولأصحاب الرأي والرأي الآخر وللنقد البناء، وكانت صفحات (النور) تعجّ بمختلف القضايا السياسية والحزبية التي توزعت على صفحاتها الثلاث الأولى، إضافةً إلى القضايا المحلية والاقتصادية، والفكرية، والثقافية والفنية، والمجتمعية، وصفحة ناقدة لشرفات الكلام، إضافة إلى الصفحة العلمية والرياضية، وصفحة أخيرة منوعة. لقد شكلت (النور) منذ أعدادها الأولى شبكة مراسلين لها في جميع المحافظات السورية، كانوا يزودوها بالقضايا الحزبية والمحلية المتعلقة بمحافظاتهم.

والجدير ذكره أن (النور) كانت تخصص ملاحق إضافية للجريدة، وذلك لتغطية المؤتمرات الحزبية وغيرها من الندوات والنشاطات، وملاحق خاصة بقضايا فكرية وثقافية وشبابية، بغية الحفاظ على صفحات الجريدة الأساسية.

نعم، كان لإعادة صدور (النور) صدى واسع وبالغ التأثير على الحزب وعلى الساحة السورية، وتفاعل معها الكثيرون وبادروا بالكتابة إليها، وأصبح لها عدد كبير من القراء والمشتركين، كما حافظت الجريدة على تواترها وصدورها بانتظام أسبوعياً وذلك لسنوات عديدة، ولم تغب وتحتجب عن الصدور إلا أثناء الأعياد فقط، وكان لها مواردها، وكانت تأتيها الإعلانات لتنشر على صفحاتها الداخلية والخارجية، وكان هناك أفكار وسعيٌ لتحويلها إلى جريدة يومية، لكن للأسف لم يبقَ الأمر على حاله، وبعد الحرب على سورية والأزمة السورية بدأ التراجع، وبسبب الضغوط المالية وزيادة نفقات الطباعة وضعف الإمكانيات وغيرها جرى تقليصها إلى ثماني صفحات، ثم تحول صدورها بالتناوب: عدد ورقي وعدد إلكتروني، ثم أصبحت جريدة إلكترونية بعد قرار توقيف طباعة الصحف في آذار 2020 بسبب انتشار فيروس كورونا اللعين.

والسؤال الذي يطرح اليوم بعد عشرين عاماً: هل حققت (النور) ما كانت تصبو إليه من مهام وأهداف أعلنها الحزب الذي يشرف على إصداراها؟

أقول: نعم، حافظت جريدة (النور) على خطها المتوازن والمتزن، وواكبت تطور المحنة السورية، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وفكرياً، وعسكرياً (أمنياً)، هذه الأزمة المركبة المتشابكة والمعقدة التي يتعالق فيها المحلي بالإقليمي بالعالمي.

استطاعت الجريدة بإمكاناتها المحدودة أن تواظب على الصدور بانتظام، دون أن تتخلى عن ثوابتها الوطنية والإنسانية، وأن تساهم بما تملك من طاقات في المعركة الدائرة في الوطن، وفي نشر الخط السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد، مع حرصها الشديد على الانفتاح على المتعدد والمختلف.

لقد سعت (النور) إلى التمايز، ولم تدَّعِ يوماً امتلاك الحقيقة وحدها، ولا شكّ في أنه ما من جريدة ترضي جميع رغبات قرائها، وتحقق مطالبهم.

أخيراً بهذه المناسبة أسوق الحادثة التالية: بعد عدة أيام من صدور العدد الأول جرت دعوة لجميع الزملاء والعاملين بالجريدة لحضور احتفال مع قيادة الحزب في أحد مطاعم دمشق بهذه المناسبة، وقد أصبح هذا الاحتفال تقليداً سنوياً يتكرر في 13/5 من كل عام، وسمّي رسمياً عيد الجريدة، وفي هذا الاحتفال الأول تحدث الرفيق الراحل يوسف الفيصل قائلاً: ( نحتفل معكم اليوم بصدور العدد الأول من (النور) وكلنا أمل أن نحتفل وإياكم بالعدد مئة)، وها قد مرّت الأعداد مئة وراء مئة وها نحن أصبحنا على مشارف العدد ألف، أقول : كل التحية والتقدير والاحترام لكل الرفاق والزملاء الأعزاء الذين عملوا في (النور)، إلى الذين قضوا نحبهم وإلى الذين مازالوا صامدين على رأس عملهم رغم كل الظروف الصعبة، وإلى الذين تركوا العمل فيها أيضاً، ولا يسعني ذكر أسماء الجميع لأنهم كثر وأخشى أن أنسى أحداً منهم.

وكل عام وأنتم و(النور) والوطن بألف خير.

 

العدد 1107 - 22/5/2024