حتّى نقهر الموت!

محمّد جمعة حمّادة:

إنّ البحث عن معنى، في قصيدة ما، لا يعني إدراجها ضمن غرضٍ محدّد، ولكنّ جوهر المعاناة الشعريّة يفترضُ وجود شيءٍ ما في النصِّ الشعريّ، شيء يصلُ غامضاً أو أليفاً، صعباً أو سهلاً.

لماذا الشعر؟ أقول، لكي نقهر الموت.

ويجيب سعيد، إنّه هروبٌ من أحزاننا.. مِنْ نثر الحياة.. من رتابةِ الأشياءِ والأرقام .

وضع سعيدٌ نُصب عينيه قضايا وطنه، الواقع والحلم أبرز معالم تجربته، قصائده مخادعة مثل نوافذ مواربة، مخادعة لأنّها تخفي أعماقاً وتظهر سطحاً، تُعطي ألفاظاً وتدسُّ صوراً:

(توقّفوا..

أريدُ أن أسألكم عَنْ وجهةِ المسيرْ

عن آخر التّهويم

في سحائب البحورْ

عن آخر التّحديق

في شواهد القبورْ

والزّخرف الباهت في دوارس القصورْ

توقّفوا

وحدِّقوا في ساعة الزّمانْ

تبيّنوا ما الوقتُ

ما الدّقيقة التي لها

يشيرُ في تَجبُّرٍ..

عقربها الّلامع كالسّنانْ

في الّليل نحنُ؟

في النّهار؟

في الفراغ؟

في المكان؟

تبيّنوا..

وحاذروا أن تخطئوا

فنحنُ في رهانْ).

والجمعُ لديه لا يؤدّي إلى نوع من الصدمة الذوقيّة:

(صدئاً كان الأفقُ العربيّ

انحدرت للبحر يمامتهُ النّاريةُ

جنّد لها القنّاص المنهمكُ

بقتل الوقت

نحاس الأفق المتأكسد

مشحونٌ بسحائب عقبان، وغرابين

وقطعان دناصير، وثيران هائجة

وبيادر أسماك متفسّخة

حوتٌ..

يتوسّد صدر امرأة سوداءَ

حمارٌ يتلمّظ باسم أتانٍ

خنزيرٌ.. يلعقُ أملاح عجيزة أنثاهُ

ديوك.. فاقدة نصف الرّيش

تمطُّ الأعناق المسلوخة

للماء الآسنِ

تشرع في الرّيح نصال مناقيرٍ

داميةٍ

تطلقُ صيحاتٍ متحدّيةً

وتنقّبُ، دون أناةٍ،

في أحشاء الجثث المبقورة

عن رغد العيشِ

تيوسُ صهباء الشّعر)_ ألواح الذاكرة المفقودة، فراشات ملعونة.

وقاموسه الشعري ذو خصوصية لافتة للنظر، الترغيب، الترهيب، سجاياك، منفاك، جنّتك، رؤاك، مسموماً، مغموماً، الأوثان، الجلّاد، السجّان، الأهواء، الأحياء، الأموات، الأسياد، العبدان، الفقراء، الاستبداد، الأزهار، الأشجار، الأقدار، الأصفاد، الأشباه، الأشباح، التثاؤب، الشكوك، الطوفان، الربّان، الكفاح، الصباح، الأوبئة، المشاكس، المسامح، الهيام، الآلام، الوئام، أحزان، أشجان… إلخ.

هي أبرز مفردات ذلك القاموس الذي رشّح سعيداً مُنذ سبعينيّات القرن الماضي، وجعلنا نرشّحه شاعر مرحلة، متميّزاً له صوته، شاعرٌ مقتدرٌ تتبادل حياته وقصيدته دور الوثيقة والتاريخ.

تقودنا نحو ماضيه وحاضره.. نحو توق عزيز أفلتَ من أصابعه، وانسربَ كالرمل. ونحو حاضر بائسٍ ومؤسٍ تراكمت فيه الأدوار:

(أنتَ الذي آمنتَ بالإنسان

آمنتَ بالحبِّ الذي، لا يعرفُ الشّطآن

أدمنْتَ فيه الصّبر، وما

ظمئْتَ للسّلوان

أدمنتَ..

أو أدمنكَ القهرُ، ولم

تعاهِدِ القهر، على الأمان

آثرتَ هول العطش المُرِّ، على

مناهِلِ الهَوان

مُذلّلاَ شراسة الزّمان، بالإيمان).

يستطرد الشاعر، تسلّمهُ الفكرة للفكرة، لأنّهُ يستحضرُ بحواسّه:

(بعضي أرضٌ، وعوالمُ أطيافٍ،

وروائعُ آياتٍ، بعضي

فأنا نبضُ الكون

وأعيادُ الكلمات السّاخرة المسحورة نبضي

وأنا والشّمسُ الأبدية، سرّان جهيران

بأسرار الأنوار الأزليّة تُفْضي

بل نحن نبيّان بآيات الشبق النيسانيّ

بأوهاج الوله الإنسانيّ

بأروع ما توحيه سماواتُ الوجدانِ

يجيئان

وأنا والرِّيح جناحان رؤومان

على وُكُناتِ الوجد

على لهفاتِ الوردْ

بآلاء السّعْدِ يرفّانِ

وينطلقانِ

بأشواقِ الأكمامِ

بأشجانِ الهُيّامِ

إلى آمادِ فراديس الأحلام.

سرّان جهيران، كالذي يرسله السحاب.

ويمتازُ أسلوبه بِما يعرف بالتعبير بالصُّور:

(أرسم الرِّيح.. أكتبُ الماء.. وجههُ النّهريّ، صوتهُ اليانعَ، وجههُ الرائع، هبّ مِنْ شتاته، استفاقَ مِنْ بكائه، أشرقَ مِنْ ردائه، عاد مثل طائر، شواسع الخضرة، أغصانه البهجة، شدوه العناق).

أو محاولة إيجاد المعادل الموضوعيّ في الأدب، يضع القارئ في التجربة نفسها التي عاشها، أو بالأحرى، يحاول أن يضعه، ويدعه يتحسّس بنفسه باللهفة أو بالحسرة، أو بالزهو والفخر، وغير ذلك من المشاعر.

إنّه لا يقول إنّهُ حزين، ولكنّهُ يُصَوِّرُ أجواء تبعث الحزن، ولا يقول إنّهُ متلهّفٌ، ولكنّهُ يُصّوِّرُ أجواء تثير اللهفة، وهو حريصٌ على أن يضع القارئ في منازعة حيّة، يراوح بها بين أكبر عددٍ ممكن من التناقضات، أي إنّهُ حريصٌ على أن يجعل تأثيره ديالكتيكيّاً في نفسيّة قارئه:

(عصفور مرح

غَزْغَرَ في الصّدْرِ جناحيه

انهالَ، بأمطارِ النّقر، على

أوتارِ الأحزانِ الجذلى

عرّش في جَنَبات الرُّوح،

مجرّاتِ الكرامةِ

أجرى أنهار وردٍ

أو أناشيد، لها إشراقةُ

أعياد اللّوز

صُراحُ التُفّاحِ

لهيب النّارنْجِ

غوايات الدِّفلى

ضوضاء جنِّي غزالٍ بشريٍّ

بَرّجهُ السُّكْرُ

وهزّتْهُ، كغُصْنِ التّوت، يد الموسيقا

سعّرهُ التّوقُ

لأن يُصبح غصناً،

عاصفةً، بحراً،

عصفوراً مرحاً، في صدر العالم.

ترانيم الألم القدّوس، أشجان الدفلى).

والتشبيه يؤدِّي خدمات جليلة في شاعريّة سعيد رجُّو، فهو يساهمُ في تنمية الجمل وإطالة التعبير كقوله:

(كنْتِ.. كزهرة الدِّفلى

جمالاً رائعاً، مُرّاً

ووجهكِ ذلك الجوريّ، شَمْسَاً

في صحاري الموتِ

كُنتِ سُلافتي، فصحوتُ

ثمّ شربتني، فسكرْتُ

يا خَدَرَ الهوى المخمورِ

يا قَدَرَ الشِّراعِ..

بلُجّةِ المقدورِ:

إنّ شراسةَ الإدمانِ

أحكمت الوثاق على

نياط القلبِ

قابضةً، على عصفورة النّبضاتِ

جاثمةً، على قيثارة الخلجاتِ

آهٍ، يا مليكة قلبي المعمودِ

يا ملكوتي المعبودِ

يا أزلاً من المَرْجَانِ

يا أبداً من الياقوتِ

يا أقداري الخمريّة الجبروت)_ أشواق الفارس المنسيّ، أشجان الدفلى.

والتشبيه يُساهم في تكوين أجمل الصور داخل القصيدة. ولسعيد أسلوبه في نسيج الشعر يتميّز بألفاظه، وطريقة تكوين الجمل والعبارات.. واستعمال الوزن الحُرّ، ثمّ محاولة إيجاد المعادل الموضوعيّ، إضافة إلى قدرته على إبداعه في تصاميم قصائده، ولم يكن في إبداعه بعيداً عن تراثه.. إنّما يمثّل بناء القصيدة لديه تخطّي التقليد الذي درج عليه شعراؤنا القدامى.

في ملحمة (الأوديسة) وحكايات السندباد ثمّة حنين إلى الوطن.. العودة إلى (إيثاكا).. وفي السندباد استرجاعٌ لفقره وغربته. كما يمكن العثور على البطل الأسطوريّ (الخارج) من جغرافيّته إلى المطلق والقدريّ. رحلة (عوليس)، طلباً للمنزل والزوجة والوطن بعد انتهاء حروب طروادة. ثمّة من يواجه مصيره منفرداً.

إنّ أهمّ المجالات الدلاليّة، التي يدور حولها شعر سعيد رجُّو: الإنسان، الطبيعة، الكون.

إنّه إنسانٌ مؤمن بوطنه.. بقوميّته.. معتزّ بعروبته.. بإنسانيّته، لذلك يعكس شعره هذا الارتباط الشديد بالإنسان البسيط. والعمل الشعريّ أوّلاً وأخيراً مغامرة.. بيد أنّها مغامرة، يجريها الشاعر بكامل وعيه من أجل الإنسان المستغَلّ دفاعاً عنه، ضدّ مستغلّيه من أجل غدٍ أفضل.

إنّ الشاعر سعيد رجُّو يملك قدرة على التخيُّل والتعبير، وهو صاحبُ رؤية، يخلق عالماً شعريّاً، يشذُّ عن النَسَق المألوف.. والتركيب في بناء الصّورة عنده لا يقتصرُ على التشبيه فقط، وإنمّا يتَعدّاهُ إلى الصُّور الاستعاريّة، وتشكيل الصّورة قاتمٌ على المزج بين العناصر المتباعدة      أو المتناقضة، يمنحُ اللغة.. رغم سهولتها طاقات دلاليّة هائلة، مع ثراء الإيقاع الموسيقيّ مردُّها المضمون الذاتيّ، أو الواقع ليس كما هو، وإنمّا كما يراه، والقصيدة المقطعيّة، عَبْرَ وحدة فنّيّة تربط كلّ عناصر البناء الشعريّ من حيث التركيب والصوت والدلالة.

قصيدة سعيد رجُّو حركة متطوّرة تنشأ معه، وتبقى مصاحبة لكيانه، حتّى تغدو في بعض الأحيان ضرباً من الحلول الوجدانيّ. أيّة علاقة بين مفهوم الموت، بكلِّ حمولته الرهيبة الدالة على الزوال والفناء، وبين ما يملكه تصّوره شعريّاً أو جماليّاَ من أدوات فنّيّة؟

هلْ يحاولُ الشاعر سعيد عقد تصالح بينه كذات مبدعة؟ وهل تمتلك اللغة الشعريّة قدرة على تحويل هذا المفهوم، وقلبه بشكل يجعله قادراً على الذوبان في مكوّناتها؟

(هاوية النّور، شجن الخضرة

الثّمر المهصور

عصفورٌ حطّ على عنق العطر المذبوح

على نهر الفرح المنهور

تعلّم ذرف الشدوِ

نزيف التّغريد

جنون التّحليق).

(مَنْ يخرج الشّمسَ، من مدارِ السُّباتِ؟

من يغسلُ البُغضَ

مَنْ يرجعُ النّبضُ

للوجودِ الموات؟).

(أنْتَ أنْتَ

أحببْتَ في ذاتِكَ

ما أحببْتَ

أبدعْتَ موتَ الموت؟).

وهكذا فالخيرُ هو دائماً ما يغنّيه الشعراء في كلِّ الأزمنة.

وسعيد رجُّو يستبدل الكآبة بالشجاعة.. والحرب بالسلام.. والشكّ باليقين.. واليأس بالأمل.. والشرّ بالخير.. والشكوى بالواجب.. والخيلاء بالتواضع.. والموت بالتضحية.. بالشهادة التي تفضي إلى حياة  حرِّةٍ كريمة.

يقترح سعيد رجُّو رؤيا جديدة للحياة والإنسانيّة والغد، مفتاحها الإيمان الصوفيّ بقوّة الحبّ، الذي يستطيع التغلُّب على المشاعر والتأثيرات السلبيّة مثل الطموح والكبرياء، والطمع والوصوليّة والانتهازيّة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024