أُناسٌ من مطر

عباس حيروقة:

ثمّة لحظات وحالات ومشاهد نعيشها، نتحسس تفاصيلها فتضعنا أمام ذواتنا الهشة الضعيفة، ذواتنا المأخوذة في دروب الحياة فتستهلكنا.. تستهلك قوانا وطاقاتنا..
حالات ومشاهد نعيشها.. نمر فيها وعلى مدار يومنا ولكن لم ننتبه إلى كنهها، لم نفرد لها ما تستحق من إصغاء وتأمل آفاقها وأمدائها.  

كم علينا أن ننظر في مرآة الوجود.. نتأمل مفردات الله المسطورة في آفاقه، كم علينا أن ندرب أرواحنا وقلوبنا على أن تكون من مقامات المطر والضوء.
هذا الصباح حملني تجاه عوالم لابدّ لنا جميعاً من السفر تجاهها علّنا ننجح في تبديد بعض الصراخ والجلبة المكدّسة في قلوبنا.. في نهاراتنا.
نعم، شدّني، بشدة، صوت المطر وهو يهمي على شجرة محاذاة نافذتي، أصغيت قليلاً له وأنا أعدّ فنجان قهوتي، يا الله ما أبهى تلك الأصوات!! موسيقا من مقام مطر وهمسات روح أم أرواح من عوالم نور..  ولكن لمن؟!
حملت قهوتي وخرجت أتأمل تلك الخيوط من المطر.. خيوطاً لم تنقطع.. وكأن السماء تريد أن تشدّ إليها بعض مَن على الأرض، أم أمّنا الأرض تشدّ بعض من في السماء إليها؟!!
أسرارٌ.. وأسرارٌ!!
كم علينا أن نجهد أرواحنا وقلوبنا في محاولة فكّ بعض رموزها.. أنظر.. أصغي أصوات المزاريب)المندفع ماؤها بقوة وغزارة، برك المياه الصغيرة التي تتسع وتتسعُ، أمطارٌ وأمطار قطرات تسقط على وجه بركة ماء فتترك فقاعات ساحرة بهية .
السواقي التي تشكلت يوماً بعد يوم بفعل غزارة الأمطار تحمل ماءها تجاه الشمال، كتلك الدروب التي تخطها خطا المارة يوماً إثر يوم تؤول دروباً تحمل ما تحمل من خطا تعبة.
السواقي تمتلئ وتمتلئ، أمضي إليها لأمرر الماء بعد أن أعاق مروره بعض أغصان الأشجار، أمشي مع الماء.. أمامه فيتبعني سريعاً يبتسم لي ويسبقني شمالاً العصافير القابعة تحت زيتونة ترتجف برداً و تنظر نحوي بتوجس.
أمطار وأسرار.. أمشي في أرض الدار ما أبهى تلك الألوان.. خضرة ممعنة يانعة بهية.
أشجار الليمون.. الزيتون.. البرتقال.. يا الله ما سرّ الأخضر.. ما سرّ الأزرق.. ما سرّ الطين.. الماء.. الرعد.. البرق..  ما سرّ الريح؟

أنظر إلى ىالأعلى.. غيوم داكنة تغطي السماء أسأل روحي: يا الله ما خلف الغيم؟؟
يحملني الشعر تجاه السطح.. وأطلق وجهي تجاه الغيم، وخيوط المطر تهمي فوق وجهي.. أصيخ لصوتها..عيناي على أشدهما تحاولان أن تفكّا بعض مفردات السماء.
المطر يهمي على أشدّه، يبللني، أتحسس دبيبه فوق وجهي.. ثيابي.. يتسلل.. يتسرب إلى ما تحت الثوب.. وجهي تجاه السماء، أتحسس دبيب المطر على جسدي. يتسرب إلى قلبي وروحي.. يطفح القلب مطراً وتطفو روحي على وجه ماء.

أنظر في مرآة ذاتي أرى الماء وحسب.. أرتجف كصوفي بحضرة ما تجلّى .
أتحسس وجهي . .جسدي . .ما أعظم أن نكون أناساً من مطر!

أمطار وأسرار وموسيقا، أنا المائي.. المطريّ.. أشفُّ.. أشفُّ كخيط مطر هل صعد تجاه سماء أم تجمّع في بركة ماء ومضى في السواقي شمالاً.. أرتجف؟؟!!

العدد 1104 - 24/4/2024