النظام العربي وتحديات موجات التغيير
إبراهيم الحامد:
بالاطلاع على مسيرة المجتمع البشري وتاريخه الذي تخلله الاحتجاجات الشعبية ضد الظلم والاضطهاد يتبين أن أغلبها قد أعقبتها الثورات، وأعقبت الثوراتِ الحروبُ، وأعقبت الحروبَ الأوبئةُ، لذلك كانت تلك الثورات تخبو كالجمر تحت الرماد ولم تنجح إلا ما ندر منها في بناء الدولة الوطنية الحديثة، إلا أنها كانت سرعان ما تثور، ما بعد الأوبئة، وتشتعل أشد عنفاً عن سابقاتها، لتحقق نظاماً اجتماعياً أكثر عدلاً مما سبق، وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن حركة المجتمع البشري مستمرة من أجل غد أفضل.
وفي السياق ذاته كانت المنطقة العربية قد شهدت منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين العديد من الحركات وموجات التغيير المناهضة للظلم والاضطهاد والاستبداد، تنشد اللحاق بركب التقدم الاجتماعي العالمي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأهمها: حركة النهضة والتنوير في عهد الإمبراطورية العثمانية التي أعقبتها اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور ومرحلة الانتداب الاستعماري على الدول العربية واغتصاب فلسطين وتأسيس (دولة إسرائيل) عليها بعد نزوح الشعب الفلسطيني إلى الشتات، بدلاً من التشبث بالأرض، وبدأ ظهور حركات التحرر الوطنية وانطلاق الثورات من أجل التغيير ونيل الاستقلال الكامل، وأعقبت تلك الثورات نكبة عام 1948، وبعد ذلك كانت موجة الثورات الراديكالية للتغيير الجذري في بنية النظام العربي والانتقال من النظم الملكية إلى نظم جمهورية في العديد من الدول العربية وتأثرها (بالثورة البلشفية وأفكارها) وميولها الاشتراكية، وأعقبتها نكسة حزيران 1967، وتبين أن تلك الأنظمة كانت تستغل الصراع الدائر آنذاك فيما بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، فارتبطت عسكرياً مع المعسكر الاشتراكي واقتصادياً مع المعسكر الرأسمالي، وكانت سياستها الخارجية تنسجم مع المعسكر الاشتراكي وخاصة في أيام ما سمي آنذاك بدول عدم الانحياز، بينما الداخلية كانت تنسجم مع توجهات المعسكر الرأسمالي ومؤسساتها الرأسمالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفيما بعد، في السبعينيات من القرن العشرين دخلت النظم العربية في مرحلة الانفتاح وظهور بوادر النيوليبرالية في نهج اقتصاداتها وتجلى ذلك أكثر، إثر انهيار المعسكر الاشتراكي، وبدأت موجة الانفتاح على الغرب تحت شعار موجة (التحول الديمقراطي) وتخليها عن النظام الاقتصادي المخطط ذي التوجه الاشتراكي في كل من الجزائر والانقلاب على هواري بو مدين، وفي تونس الانقلاب على حبيب بو رقيبة، وفي مصر الانقلاب على إرث جمال عبد الناصر من خلال أنور السادات.
وأما بقية الدول التي لم يتم تغيير قادتها آنذاك فقد غيرت توجهاتها وتبنت النظام الاقتصادي النيوليبرالي (اقتصاد السوق الحر ) وراهنت تلك النظم في ظل موجة (التحول الديمقراطي) على المجتمع المدني المتمثلة بالمنظمات الشعبية المسيسة والرديفة للأحزاب الحاكمة من أجل البقاء في السلطة وتدجين مجتمعاتها وفق نظمها ومصالحها، بعيداً عن بناء مؤسسات الدولة الوطنية ودولة المواطنة ومقتضيات الدولة الحديثة، فأعقبها الحرب العراقية الإيرانية التي كلفت العراق آنذاك 350 مليار دولار، ومن ثم غزو النظام العراقي للكويت وتشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لإخراج صدام من الكويت؛ ومن ثم سقوط بغداد والاحتلال الأمريكي للعراق. ومؤخراً كانت موجة (الربيع العربي) التي رفعت شعارات (خبز وسلم وحرية وعدالة الاجتماعية) والتي بدأت من تونس مروراً بمصر واستقرارها في كل من ليبيا واليمن وسورية، التي ما زالت تدور فيها رحى حرب صراعات النفوذ بالوكالة فيما بين الدول العظمى والقوى الإقليمية، والتي كشفت عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الداعم لـ(صفقة القرن) من أجل عملية التطبيع العربي مع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية (القضية المركزية للأمة العربية)، تلك القضية التي بحجتها جوّع حكام العرب شعوبها وساهموا في شرذمة حركة التحرير الفلسطينية إلى عشرات الفصائل والمليشيات، واستغلت من قبل الحكومات العربية والإسلامية باستخدامها كسلاح ضد بعضهم البعض وتكريس سلطاتها، وظهر بعد تلك الموجة والحروب وباء كورونا، لذا لم يزهر ( الربيع العربي) ولم تثمر المأمول من التغيير في بنية النظام العربي، وما تم من تغيير في بعضها ما هو إلا تغيير في الأسماء، لأن الذي يحكم مازال يحكم بالآلية القديمة نفسها، بل بات جليّاً في النظم الحاكمة أنها تتبنى النظام الديمقراطي النيوليبرالي نظرياً، والمفروض أن يقترن ويتزامن ذلك مع التعددية السياسية وحرية التعبير وحرية الإعلام والحريات العامة وحرية التظاهر للجماهير المتضررة والتعبير عن معارضتها للسياسات القائمة التي تلحق الأضرار بأغلبية الشعب الذي بات 80 % منه تحت خط الفقر، إلا أن تلك الأنظمة ما زالت عملياً تمارس عملية التفرد بالسلطة وتتبع نهج سياسة حكم الحزب الواحد، وهذا هو سبب الخلل في النظام الاقتصادي العربي الذي لا يشبه أي أنظمة اقتصادية متبعة في العالم، وهذا ما يحدث في معظم الدول العربية بالرغم من تغيير الحكام في العديد منها، والتي ما زالت تئن معظمها تحت وطأة الصراعات والحروب الأهلية المدمرة. فلماذا بعد كل ثورة أو موجة تغيير كانت تقوم الحرب، والوباء، والانتكاسة؟ باعتقادي أن ما بني على أرضية هشة سيكون سريع الانهيار، لأن إذا عدنا إلى الدول القومية التي بنيت على أنقاض الإمبراطورية الثيوقراطية الإقطاعية العثمانية إثر اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية، التي أسستها الدول الاستعمارية بما يخدم مصالحها الرأسمالية بالنيابة، ومن ثم جلت عنها بضغط من القوى الوطنية الثورية، التي قادت الثورات الوطنية الشعبية، وتسلقها فيما بعد الساسة أعوان الاستعمار من بقايا الإقطاع والبرجوازية القومية والطفيلية والبيروقراطية والرجعية الدينية، الذين باتوا قادة للنظام العربي، ذاك النظام الذي ولد من رحم الاستعمار، كان يحارب اتفاقية سايكس بيكو نظرياً من خلال المناهج المدرسية وبرامجها السياسية ويحملها سبب تجزئة الوطن العربي، وحملوا التجزئة تلك سبب ضعفهم وتخلفهم، ورفعوا شعارات براقة مثل وحدة الوطن العربي وتحرير الأراضي المحتلة، أما عملياً فقد كرس النظام العربي اتفاقية سايكس بيكو من خلال تشبث كل نظام حاكم في تلك الدول بدولته وتكريسها، وبتخصيص علم ونشيد ويوم عيد استقلال خاص بها، وهذا يدل على أن النظام العربي كان راضياً ضمناً بالتجزئة ويحاربها ظاهرياً ليغرر بشعوبه التي دجنها بالترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، وكل ذلك للحفاظ على تبعيته للنظام الاستعماري الرأسمالي والحفاظ على مصالحه الخاصة بممارسة الاستبداد وقمع لكل من يخالفه في الرأي، وكل نظام كان يحل محل ما سبقه بالقوة وليس بانتخابات وتداول سلمي للسلطة، ولذلك كان يبدأ من الصفر بسبب إلغائه لكل ما قام به السابق، وكان يسوده المنطق القومي والقبلي والعشائري والديني، بدل منطق الدولة الوطنية ودولة المواطنة التي كانت لا بد منها في المجتمع المتعدد والمتنوع إثنياً ودينياً وثقافياً، إضافة إلى نشر فكر التعصب القومي الأحادي وإقصاء الآخر لدرجة تبني فكرة صهر الجميع في بوتقة واحدة، وهذا ما ولد خطاب الكراهية فيما بين شعوبهم بدلاً من تعزيز الشعور الوطني وحب المواطنة لدى المواطن اتجاه الآخر، وإضافة إلى ما سبق، تم الاعتماد في التعليم على المنطق القومي والقبلي الذي يظهر التمييز فيما بين مكونات المجتمع، فجاءت مناهج التعليم المدرسية، تلقن التلاميذ والطلبة المزيد من التفرقة والتجزئة، ومن ثم خاضوا ردحاً من الزمن في مفهوم الحداثة تجلت فيما بعد بأنها لم تكن سوى إزاحة السحر والشعوذة والغيبيات التي كانت متسلطة على ذهنية البشر، وإقناعهم بعلمانية الأحداث والظواهر الطبيعية، كما أنهم عيشوا شعوبهم في أحلام سردية من خلال الشعارات (وحدة الوطن العربي والأمة العربية والحرية والاشتراكية والديمقراطية الشعبية و…. ) وانكشف الأمر بأن تحقيق تلك المفاهيم لا يكفي بأن تكون مؤمناً بها، بل من خلال ممارسات عملية تهيّئ لتحقيقها، كما نادوا بالديمقراطية والديمقراطية الشعبية ظناً منهم بأن الديمقراطية هي إجراءات تتعلق بالانتخابات فقط، وضخموا مفهومها لدى شعوبهم حتى ظنوا بأنها عصا سحرية للتغيير، متناسين أن الديمقراطية هي جعل الحكم والسلطة وإدارة الشعب عملاً مؤسساتياً بشكل أفقي تخفف من السلطة المركزية التي كرست سلطة الأقلية على الأكثرية والتفرد بالسلطة، وبذلك قد ألغي العمل الجماعي المؤسساتي اللامركزي والذي يتناسب مع النمط المعاشي لكل مجتمع وتنوعه، لأن الديمقراطية تتنوع أشكالها بتنوع المجتمعات وأنماطها المعيشية، فلا يمكن لما يطبَّق في المجتمع الصناعي المدني المتطور أن يُطبّق على المجتمع الصناعي البدائي، أو على المجتمع المدني الزراعي أو المجتمع الريفي الزراعي أو المجتمع الزراعي والرعوي أو المجتمع الرعوي المتنقل أو المجتمع المتعدد والمتنوع الثقافات، فلكل مجتمع من تلك المجتمعات ثقافته ونمطه المعيشي، الذي يكسبه نمطاً فكرياً وثقافياً معيناً يتناسب مع نمطه المعيشي، إضافة إلى إقصاء الشعوب الأخرى غير العربية التي تعيش على أرضها التاريخية بين ظهراني الدول العربية ما بعد اتفاقية ( سايكس بيكو ) الاستعمارية وتهميش حقوقها دون معالجة، فأصبحت ثغرة تنفذ منها أجندات خارجية في هذه المرحلة. لذا كان كل نوع من تلك الأنواع الاجتماعية البشرية يحتاج نوعاً من الديمقراطية تناسبه، وإضافة إلى كل ما سبق من الأسباب التي جعلت الدول العربية متأخرة ومتخلفة، مسألة صراع أنظمة الدول العربية فيما بينها، واتهام كل نظام للآخر بشتى أنواع الاتهامات، مما ساعد ذلك على المزيد من التجزئة والمزيد من التباعد فيما بين شعوبهم والمزيد من الضعف الاقتصادي، وقد باتوا ضمن دائرة الاقتصاد الريعي التابع للنظام الرأسمالي، لذلك ابتعدوا عن العمل الحقيقي الذي يؤسس لمؤسسات الدولة الحديثة، ولذلك ظلت دوله هشة ومتأخرة عن ركب الدول المتقدمة، وكل ما كانوا يقومون به هو تحميل أخطائهم وتأخرهم على مشجب المؤامرة وممارسات العدو الصهيوني ودعم الغرب الاستعماري له، فهل من المنطق العلمي أن يأمل الواحد من عدوه بأن يتركه كي يتفوق عليه!؟ وهكذا حتى جاءت موجة ما سمي بـ(الربيع العربي أو الثورات العربية) من أجل التغيير الجذري، وقد انتكست معظمها، بسبب رحى الحروب الطاحنة التي تديرها القوى الرأسمالية ومرتكزاتها الإقليمية بالوكالة، تلك القوى التي لم تصل بعد إلى حسم مسألة توزيع النفوذ وبيان حصة كل منها في كعكة الوطن العربي، فأعقبها وباء كورونا مثلها مثل الموجات الأخرى التي أعقبتها الحروب ومن ثم الأوبئة التي كان من شأنها تكريس التباعد الاجتماعي وعزل المجتمعات عن بعضها البعض، فانتكست الموجات الثورية للتغيير الجذري، ولكنها لم تمت بل خبت جمرها تحت الرماد، سرعان ما ستشتعل بأول لفحة هواء تثيرها، لتأتي أشد قوة وثورية عن سابقاتها ما بعد تلك الأوبئة، وهذا ما سينسحب على الدول العربية ما بعد كورونا، فهل هي جاهزة لمجابهة التحديات المرتقبة ما بعد كورونا؟ أم سيظل رهانها دوماً على (رئيس أمريكا المقبل) ناسين أن من تدير أمريكا هي مؤسسات الطغم المالية العالمية وبرعاية صندوق الدولي والبنك الدولي، والتي تراجع دورها إثر ظهور أقطاب اقتصادية وعسكرية منافسة لها في العالم. وإن الأحداث المتسارعة وذات التحولات الجديدة والتي تنبئ بحدوث تغيرات جذرية تنعكس سلباً على أمريكا ومن معها، إما أن يدفع هذا بحكام العرب وسلطاتهم لإعادة النظر في مواقفهم وممارساتهم التي أوصلت دولهم وشعوبهم إلى ما هي فيه الآن من ضعف ودمار وذل وهوان، أما كانت تلك الحكومات والسلطات التي راهنت على أمريكا ونظامها الرأسمالي الاستغلالي والاحتكاري ونيوليبراليتها كانت وبالاً على شعوبها بشكل عام وعلى حركات التحرر الوطنية والقوى اليسارية والماركسية والتنويرية بشكل خاص؟ ألا يجدر بهم أن يسرعوا لحل القضايا العالقة للشعوب التي تعيش في ظهراني دولهم ومنحهم حقوقهم الشرعية في إطار الدولة الوطنية ودولة المواطنة، كي تمنع من يستغلها خدمة لأجندات الخارجية؟
إن النظام العربي وجامعة الدول العربية قد باتت أمام تحديات كبرى، والشعوب لم يعد بالإمكان الضحك عليها ولا أن يغرر بها كما السابق، إن الشعوب الجائعة ستثور ثورة الجياع ولم تعد تهاب الموت جوعاً أو بغيره.