المهزومون

بولس سركو:

المهزومون انتهازيون ضعفاء أمام جبروت ثقافة تفرض بالقوة، وغالبا يتحول هؤلاء الى عملاء محليين للخارج يستقوون به، وتعتمد عليهم القوى الاستعمارية في تشريع احتلالها وتكريس سيطرتها على المجتمع الذي كان ينبذهم.

هذه الظاهرة تتجدد طبيعتها بتجدد طبيعة الامبريالية وأساليبها، فالعولمة الأمريكية أو الامبريالية الجديدة، نقلت المهزومين من موقع النبذ الاجتماعي الى موقع أصحاب رأي آخر يتوجب احترامه، وأخذ الاعلام على عاتقه مهمة تحريرهم من قيد الشعور بالذنب والنقص، والخجل من احتقار الشارع لهم، ومنحهم ثقة بالنفس ومنبر ريادة له تأثيره على هذا الشارع، وقد لاحظنا مؤخرا الأعداد المتزايدة من النخب والشخصيات والتيارات والأحزاب وفئات من الناس تتغنى بفضائل الاستعمار وتطالب بصوت جهوري مع عرض انفعالي،  بعودته لحكم بلادنا بحجة أن الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد عجزت عن احداث نقلة نوعية في الحياة الاجتماعية، تدخلها الى قطار الحضارة، وكأن الاستعمار جمعية خيرية لترقية الشعوب .

هلوسة الفضيلة الاستعمارية كانت واحدة من تجليات اختراق العولمة الأمريكية للنسيج الاجتماعي السوري وغيره، وتكون ثقافة التبعية في وعي بعض الأفراد والجماعات، كيف تكونت؟ من ساعد على تكونها؟ موضوع طويل يحتاج لأوسع من مقال صحفي لكنني أعطي مثالاً استثنائياً هنا، قصة المهزوم الشيوعي رياض الترك، وذلك لأننا اعتدنا تاريخيا على ارتباط العمالة للاستعمار باتجاهات فكرية معينة دينية يمينية رجعية و لبرالية، ولم نعتاد أن يرتكب تلك الجريمة النكراء أشخاص تكونوا في قلب الفكر الماركسي المعادي للاستعمار في جوهره، فمن واجبنا الاجابة على بعض الأسئلة المطروحة في شارع غير ملم بالتفاصيل، لم يستوعب حتى الآن صدمة تراجع شيوعي ما الى مستوى مفتي لجماعة دينية ارهابية أو تدنيه الى مستوى عميل للامبريالية الأمريكية .

هي مفارقة مخجلة للغاية تدعو للتدقيق في سيرة الترك التي توحي لي بأنه قدم الى الماركسية بكل أسماله البالية فتنامت في شخصيته تناقضات حادة، تندفع كالبركان للخارج من حين لآخر لتحرق الأخضر واليابس من حوله في ممارسات انفعالية غير سياسية، غير مضبوطة بمفهوم الجدل الماركسي وغير واقعية، طالما نفرت أقرب المقربين اليه، فكلها مواصفات كفيلة بتوجيه حاملها الى سكة الهزيمة .

عندما شق الترك صفوف الحزب الشيوعي السوري كان يبدو قوميا عربيا أكثر من القوميين والأحزاب القومية ذاتها، في نفس الوقت كان يرفض التحالف مع هذه الأحزاب في الجبهة الوطنية التقدمية حتى أصبح ذلك التحالف ذريعته الأساسية للانشقاق ولم يكن ذلك التناقض سوى مقدمة لتاريخ سياسي حافل بالمغامرات التي كلفت أنصاره والحركة الشيوعية السورية وحركة التحرر الوطني والوطن عموما خسائر لا تحصى قبل أن يغفو قرير العين في الحضن الامبريالي الأمريكي فالبلد دمر وأهله رحلوا .

عندما تحمس الترك لمعارضة بكداش والبعث والجبهة عام 1972رفع سقف برنامجه السياسي الى حدود الخيال، و أهم نقاطه : الوحدة الفورية بين الأقطار العربية من أجل تحرير فلسطين وتفكيك الكيان الصهيوني، سياسة أكثر استقلالية عن الاتحاد السوفييتي، توثيق التعاون مع الأحزاب التقدمية واليسارية كحزب البعث والاتحاد الاشتراكي، نبذ مواقف بكداش الانعزالية، الدعوة لإقامة حزب شيوعي عربي موحد، ومعظم تلك النقاط كانت للترويج السياسي فمن لم يستطع الحفاظ على وحدة حزبه الشيوعي السوري كيف له أن يوثق التعاون مع أحزاب رفض التحالف معها؟ كيف له أن يؤسس حزبا شيوعيا عربيا موحدا؟ وكيف له أن يقيم وحدة فورية بين الأقطار العربية؟ وكيف له أن يفكك الكيان الصهيوني ويحرر فلسطين؟

من الواضح أنها مهام أكبر بكثير من امكانيات عشرات الأحزاب وليس حزب الترك فقط الذي لم يركز في ممارساته السياسية العملية سوى على الممكن مختصرا بنقطتين بقيتا محور كل نشاطه وهما: نبذ مواقف الشيوعيين الآخرين والاستقلالية التامة عن السوفييت ومناهضتهم فمنذ ذلك الوقت كان مسكونا بهاجس اليسار الأوروبي الجديد المخترق وحملته على الاتحاد السوفييتي ورموزه برعاية المخابرات الأمريكية وتمويلها .

عام 1979 أعتبر الترك أحداث اللاذقية الطائفية تحركا شعبيا وانتفاضة ضد السلطة وتناقلت كوادر حزبه في حزيران 1980 رسالة داخلية تقول : أحد الخيارات المفتوحة أمام المعارضة السورية يتمثل في الدخول بتحالف ديمقراطي – اسلامي – شعبي، كان ذلك التاريخ خطوة متقدمة للترك في الدهليز الفكري الذي دخله وظل يتخبط في ظلماته، الكاتب محمد سيد رصاص وهو من رفاقه السابقين تحدث في مقال له عن (انزياحات فكرية و أيديولوجية )ولكنه من وجهة نظري توصيف مخفف جدا لأن جريمة الترك لم تكن مجرد انزياح عفوي بل هي سقوط مدوي و استفزاز انفعالي شخصي، هي انقلاب جذري و خيار لاوطني و اصطفاف في الخندق المعادي ومختصر كل ذلك – هي خيانة عظمى – للماركسية وللوطن وذلك لأن الترك كان يعرف كما نعرف جميعا ما هي وظيفة الاسلام السياسي في المنطقة ومن هي القوى الامبريالية التي كلفته بهذه الوظيفة؟ ومع ذلك فضل مغازلته على التحالف مع أحزاب تقدمية ويسارية علما بأن الإخوان المسلمين قالوها بالحرف الواحد له ولأنصاره” عودوا الى جحوركم ” لكن الترك لم يخجل من تلك الصفعة المهينة واستمر بالتقرب من جماعة دينية رجعية متطرفة كونتها المخابرات الإنجليزية الأمريكية لمناهضة تحديث المجتمعات العربية والمحافظة على تخلفها وجمودها، حتى عندما ارتكبت طليعتها المقاتلة المجزرة الطائفية في مدرسة المدفعية في حلب يوم السبت 16 حزيران 1979 وأدانتها كل أحزاب اليسار وتبرأت منها حتى الجماعة نفسها بقي رياض الترك وحيدا يرفض ادانتها لأنه كان يحلم بأكثر من مجرد مغازلة مع الجماعة كان يفكر (بالزواج )منها ضاربا عرض الحائط بكل القيم الماركسية .

 استعرت تعبير (الزواج ) من مادة للكاتب محمد سيد رصاص بعنوان (الزواج اللبرالي – الاسلامي) منشورة في جريدة الأخبار اللبنانية ويقول فيها أن أحد أعضاء حزب الترك علق بأن “شهوة الزواج مع الإخوان المسلمين موجودة عند رياض الترك منذ عام 1980 ”

كان الترك الذي وضع شعار تحرير فلسطين وتفكيك الكيان الصهيوني يرى بأم عينيه الآلاف من ارهابيي جماعة الاخوان المسلمين يزحفون صوب أفغانستان لقتال (الكفار) السوفييت في أضخم عملية استخبارية غربية لفك الطوق عن الكيان الصهيوني ونقل الصراع الى جبهات بعيدة عنه دون أن يكف عن محاولات مغازلة الجماعة التي بقيت تهزأ به معتبرة محاولاته قومية يسارية لاستثمار جهادها .

 يقول الكاتب محمد سيد رصاص إن الخطبة للزواج اللبرالي – الاسلامي كانت في (اعلان دمشق) لكنها فشلت فأعيد احياؤها في الدوحة أثناء المحادثات بين الاعلان والجماعة وهيئة التنسيق في أيلول 2011، الى أن تمت في مجلس اسطنبول القائم على توجه أمريكي تركي قطري للاعتماد على الاسلام السياسي كبديل للنظام، وعلى مراهنة تكرار سوري للسيناريو العراقي والليبي، وشرح الكاتب طبيعة التلاقيات الفكرية السياسية الوقحة بين الزوجين بأنها ” من المشروع الاعتماد على القوى الخارجية الدولية والاقليمية من أجل اسقاط النظام ”

المقصود من كلمة اللبراليين في المادة المذكورة عدد من الماركسيين المتحولين الى اللبرالية وجهوا -حسب الكاتب – “مراكبهم وفق الرياح الأمريكية التي هبت على المنطقة مع سقوط بغداد بيد واشنطن عام 2003” ومعظمهم قادة في حزب الترك وأعضاء في اعلان دمشق وأبرزهم هو الترك نفسه وميشيل كيلو وجورج صبرا وياسين الحاج صالح وغيرهم فهؤلاء يتحملون مسؤولية جرمية بحق الوطن ليس فقط لأنهم طعنوا بسيف مسموم الحركة الشيوعية السورية وخطها الوطني في الظهر، وليس فقط لأن مهزلة الانقلاب من الماركسية اللينينية الى فكر الخصم اللبرالي الإمبريالي والوهابي الرجعي هي فضيحة وهزيمة فكرية تاريخية كبرى، ووضاعة تدل على شخصيات موتوره غير مستقرة نفسيا، أسهمت في تقليص شعبية الحزب الشيوعي وتعزيز سطوة التيار الديني على الشارع، بل الأهم من كل ذلك ما تركته تقلباتهم من آثار مدمرة على القضية الوطنية ذاتها والتفاف الجماهير حولها فقد حقق هؤلاء المجندين في مشروع الشرق الأوسط الجديد كل ما خططت له واشنطن من خطوات لنشر الفوضى في أوساط الجماهير وخلق وزمة خطرة من التبعية داخل المجتمع السوري ترحب بالمستعمر الخارجي القادم بجيوشه ليفصل رؤساء دمى وحكومات تابعة تحت شعار الديمقراطية .

لقد عمقوا الشرخ الاجتماعي في سورية الى حدود يصعب ترميمها شأنهم في ذلك شأن عصابة أبو محمد الجولاني وكل النتاج الفكري لمصانع المخابرات الأمريكية ممن بثوا بذور النزعة اللاوطنية العابرة للحدود في وعي العامة .

العدد 1104 - 24/4/2024