أمريكا لم تعد (الآمر الناهي)!

د. صياح عزام:

في عام 1821 حذر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كوينهي آدامز من مغبة أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية (الآمرة الناهية في العالم)، وكانت حجته في هذا الرأي هي أنه إذا ما تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن مبدأ كان في صلب إعلان استقلالها، وهو مبدأ عدم تدخل سياستها الخارجية في شؤون الدول الأخرى، فستصل إلى وضع (الآمر الناهي).

وبالفعل، أصبحت الولايات المتحدة على هذا النحو، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي أصبحت آمرة ناهية متغطرسة وغاشمة ووحشية إلى أبعد الحدود لا تطيق أي معارضة لها في العالم، والأمثلة على ذلك متعددة، منها عقوباتها على العراق في تسعينيات القرن الماضي، تلك العقوبات التي أدت إلى قتل مئات الآلاف من الأطفال العراقيين، والأدهى من ذلك أن موت أولئك الأطفال بسبب العقوبات والحصار لم يزعج أمريكا (الآمرة الناهية) إطلاقاً، لأن سياستها كانت ومازالت قائمة على أن العقوبات إذ تقتل أعداداً كبيرة من الناس ستجبر رئيس الدولة المستهدفة (صدام حسين) على الرحيل، وبكل وقاحة عبّرت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت عن هذا الموقف الأمريكي الرسمي بتصريح شهير ومخزٍ أدلت به على الملأ وبشكل علني جاء فيه ما معناه: (إن تحقيق الهدف الأمريكي جدير بأن يكون ثمنه موت نصف مليون طفل)!

والسؤال: هل هناك وقاحة وعجرفة واستهانة بأرواح الناس والأطفال منهم خاصة أكثر من ذلك؟!

موت نصف مليون طفل لا يساوي شيئاً عند المسؤولة الأمريكية في سبيل تحقيق هدف أمريكي استعماري احتلالي!

وبقيت العقوبات على العراق لمدة تقارب العقد من الزمن كما هو معروف.

مثال آخر من الواقع الراهن فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية، يتجسد في قضية مينغ وانزو، المواطنة الصينية التي تشغل منصب المديرة التنفيذية لشركة الاتصالات الصينية هواوي، التي أوقفتها السلطات الكندية ووضعتها قيد الإقامة الجبرية في منزلها، بطلب من الحكومة الأمريكية التي ادعت أن وانزو هذه انتهكت العقوبات الأمريكية على إيران!

والسؤال الذي يُطرح هنا: ما علاقة وانزو بالعقوبات الأمريكية على طهران! إنها مواطنة صينية وليست أمريكية، ولماذا أحالتها الحكومة الأمريكية إلى المحاكمة!

الإجابة واضحة، وهي أن العقوبات أصبحت أداة أو قاعدة في تعامل السياسة الأمريكية الخارجية مع الآخرين أفراداً ودولاً، إذ يجري استهداف المواطنين الأجانب والدول بالعقوبات والحرمان الاقتصادي لخلق المعاناة القاسية التي تصل إلى حد الموت، لإرغام الحكومات الأخرى (المستهدفة) على الرضوخ لإرادة (الآمرة الناهية).

ومن الملاحظ أن العقوبات الأمريكية الظالمة تشتد على فنزويلا وإيران وسورية، بالتزامن مع استمرار الوجود الأمريكي في العراق وشرق الفرات في سورية، وكل ذلك تحت ستار محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.

وإذا دققنا في أوضاع هذه البلاد المستهدفة بالعقوبات الأمريكية نجد أنها دول نفطية أولى في العالم إنتاجاً واحتياطاً ولا تخضع للنفوذ الأمريكي، وبالتالي تهدف واشنطن إلى السيطرة على هذه الدول النفطية، وكذلك على الثروات الهائلة من الغاز في السعودية واليمن وسورية ولبنان والسودان، إذاً، فإن الهدف الأمريكي من الوجود العسكري في سورية هو وضع اليد على النفط والغاز السوريين، خاصة في دير الزور وحقول حمص والحسكة، التي تقول الدراسات الغربية إنها تجعل سورية أغنى من دول الخليج.

إن الولايات المتحدة مازالت تأمل باستمرار دورها (الآمرة الناهية) في العالم، متجاهلة أن قوى كبرى أخرى في العالم لم تعد تقبل بهذا الوضع، وأن معالم عالم جديد يقوم على تعدد الأقطاب هو قيد التشكّل وبزخمٍ عالٍ، ولذلك فإن سلاح العقوبات الأمريكية ليس بمقدوره الحفاظ على ما بقي من مقولة (أمريكا الآمرة الناهية).

العدد 1104 - 24/4/2024