أمين أبو جوهر.. وداعاً!

بقلم: حفيدته نارين علي

كتب الرفيق محمد أمين برجس أبو جوهر في صفحات هذه الجريدة العديد من المرثيات لرفاقه الذين رحلوا، وها هو ذا الآن، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين يغادرنا ويرحل، وتبقى مهمة وداعه لي.

(رزقنا الله بولد أسميناه محمد)، هذا ما دوّنه والده في دفتره صباح يوم الخامس والعشرين من نيسان من العام 1935، وهناك في بلدة صغيرة تقع على بعد بضعة كيلومترات من مدينة الناصرة الفلسطينية، أبصرت عيناه النور، وها أنا ذا حفيدته أدوّن في دفتري أن محمد أغمض عينيه للمرة الأخيرة وغادر عالمنا في الثامن عشر من آذار من عام 2019، على سفح جبل يشرف على مدينة دمشق، وما بين هذين التاريخين كانت مسيرة حياة غير عادية لشخص استثنائي.

عاش جدي طفولة قاسية، فقد كان أبوه إماماً تاركاً للإمامة، يمارس صنعة تصليح البريموس متنقلاً مع أسرته بين بلدات ساحل بحيرة طبريا. فقدَ والدته في حادث أليم كان شاهداً عليه، ثم سيق إلى الشتات مع من هُجِّروا، بعد أن طردت العصابات الصهيونية سكان بلدته.

احتضنته سورية وعاش فيها حتى النهاية، نال علومه فيها وحصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، وشهادة أهلية التعليم الابتدائي، إضافة إلى شهادة قائد فصيل من قيادة جيش التحرير الفلسطيني.

تعرف على الحزب الشيوعي السوري وانتسب إليه عام 1953 وبقي عضواً فاعلاً فيه منادياً بقضايا المظلومين أياً من كانوا وأينما كانوا، حتى آخر يوم في حياته.

تزوج وأنجب خمسة أولاد، أهداهم حياة حرة كريمة وأسماء منتقاة بعناية.

رحل جدي جسداً وترك خلفه إرثاً معرفياً قيماً متجلياً في أعماله، وهي أربعة كتب: (الإسماعيليون بين الاعتزال والتشيع)، (الدروز بين العرفان والتوحيد)، (مختارات بين الجدّ والهزل)، (مختارات من التراث بين المعرفة والنضال)، كما ساهم في إعادة إحياء أفكار المستنيرين ممن سبقوا، فحقق كتاب المعرفة للشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، وساهم في تحقيق كتاب التلويحات اللوحية، لشيخ الإشراق السهروردي، والتلويحات الملوحية والوسيلة، وكتب عشرات المقالات في الصحف والمجلات السورية، ومنها جريدتا (نضال الشعب) و(النور).

لربما عرفتموه وكان رفيقكم، ولربما دعاكم مرة لشرب القهوة في شرفة منزله المنيرة تحت فيء دالية العنب، ولربما لم تعرفوه، أما أنا فكان نصيبي وافراً، فقد استقبلني جدّي حين حللت في هذا العالم، علّمني أولى كلماتي، أخذ بيدي وأعطاني قلماً وأراني كيف ترسم الأصوات، كان نافذتي على المجهول وبوصلتي ومنارتي، كان صديقي الأول.

لربما يغالي الأحفاد في ذكر محاسن أجدادهم عندما يرحلون، وذلك من فرط التعلق ولوعة الفراق، ولكنني أظن أن كل من تقاطع دربه مع درب جدّي وعرفه يوماً لا بدّ أن يكون قد لامس ولو جزءاً يسيراً من تلك الروح النبيلة.

لقد كان أباً وابناً وزوجاً وأخاً وجدّاً وصديقاً ورفيق طريق وعالمَ خير، متواضعاً، فاضلاً، ذكياً، ودوداً، مستبصراً، وذا فكرٍ مستنير، أمميَّ الدين، بسطاميّ المذهب، اشتراكيّ العقيدة، صوفيّ السريرة، فلسطينيّ الهوى، شاميّ النسك، ملكيّ الخلق وحلو المعشر.

فليكن ذكره مؤبّداً!

العدد 1104 - 24/4/2024