التعامل مع تداعيات الأزمة في (الثلاثاء الاقتصادي)

ديمة حسن ـ النور:

قدم الدكتور منير الحمش في إطار (الثلاثاء الاقتصادي) في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة ندوة بعنوان (كيف تعاملت بعض الدول مع تداعيات الأزمات الاقتصادية)، وقد بدأ حديثه بمقدمة حول ملاحظاته السابقة للأحداث في معرض تقييم نتائج الخطة الخمسية الأخيرة (2006-2010) وأكد أن تحرير التجارتين الداخلية والخارجية، وإطلاق العنان لقوى السوق ، سوف يقودان (إلى جانب عوامل أخرى) إلى خلق الأجواء المناسبة لتصاعد وبروز ما دعاه (مجتمع المخاطر) تلك المخاطر الناجمة عن الانضواء تحت لواء الاقتصاد العالمي، والانخراط بالعولمة، كما أكد أن (التحرير قبل التمكين خطر عظيم)، وأن سورية قد وقعت في المحذور.

وأبرزَ أن ما تسعى إليه قوى الظلام والتآمر، في الخارج، هو سيناريو واحد بوجوه عديدة يتركز حول إبقاء سورية (واقتصادها) أسيرة للاقتصاد الرأسمالي العالمي، اعتماداً على دور ونفوذ القطاع الخاص المصنّع في أروقة النظام الرأسمالي العالمي، كما تسعى لربط الحل السياسي النهائي للأزمة، بانتقال السلطة وتسليمها لفئة من تجار الأزمة وبقايا الرأسمالية والبرجوازية الكبيرة، بتحالفها مع الإسلام السياسي المتمثل في الإخوان المسلمين والفصائل المسلحة التكفيرية. وتوجيه الأنظار إلى مسألة تمويل إعادة الإعمار عن طريق القروض الخارجية المضمونة من البنك الدولي، وارتهان مستقبل سورية الاقتصادي لخدمة تسديد الديون.

وانطلاقاً من ذلك يتم تضخيم أرقام الاحتياجات من جهة، والتهوين من شأن القدرات الذاتية والموارد المحلية، وعدم إمكانية وفائها بمتطلبات إعادة الإعمار، وما ساعد على انتشار هذه التوجهات في الأوساط الشعبية والدوائر الرسمية، هو قناعة بعض المسؤولين، المعززة بوجهات نظر بعض الأكاديميين والمثقفين الليبراليين، حول عدم قدرة الدولة على تحمل أعباء الاقتصاد وإعادة الإعمار والمشكلات الاجتماعية، وجدوى الحل الاقتصادي الليبرالي الجديد، والتراجع الذي تشهده الأفكار المناوئة لهذا الحل على المستوى العالمي والإقليمي، واتهام تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي بأنه هو المسبب للأزمات الاقتصادية. وبيّن أن منطق السوق المطروح، هو منطق الغاب، منطق البقاء للأقوى، منطق الاستغلال والاحتكار، وأن كل الطروحات والانتقادات السابقة للسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، لم تلقَ صدىً، لأن دعاتها ومروجيها يملكون السلطة والمال، والإعلام والمؤسسات، وإمكانية تسخير الحكومة ومؤسساتها للترويج واتخاذ القرارات وتنفيذها، فضلاً عن سيادة حالة الإنكار التام من قبل الحكومات المتوالية لمساوئ تلك السياسات وآثارها الكارثية على الاقتصاد والمجتمع.

وقام الدكتور الحمش باستعراض نماذج للأوضاع الاقتصادية لبعض البلدان في مراحل متعددة، وبدأ بالولايات المتحدة الأمريكية التي أوضح مرورها بتجارب هامة، وتعود أهميتها إلى أنها أصبحت مركزاً ورمزاً للرأسمالية الاحتكارية العالمية، منذ الحرب العالمية الأولى، حين بدأ بريق الغرب الأوربي يخبو، وبدأ عصر تراجع الاستعمار المباشر للشعوب ليحل محله تدريجياً النفوذ الرأسمالي والمصالح الاقتصادية، والاستعراض السريع لما حصل في الولايات المتحدة يفسر إلى حد بعيد ما حصل في الاقتصاد على الصعيدين النظري والعملي، ومما يجدر الإشارة إليه، أن الولايات المتحدة (بحكم عوامل البعد الجغرافي) كانت في جميع الحروب (وخاصة الحرب العالمية الأولى والثانية) تخرج من الحرب دون أضرار مباشرة على بنيتها الأساسية، ودون تداعيات سلبية على اقتصادها ومجتمعها، لا بل إنها تخرج وقد حققت مكاسب هامة على الصعيد الاقتصادي مع تعاظم في النفوذ السياسي، وبعد الحرب العالمية الأولى سادت في الولايات المتحدة حالة من الانتعاش الاقتصادي والرخاء، في ظل سيادة اقتصاد السوق المنفتحة التنافسية، وانطلاقاً من حالة من التفاؤل بأن (سوق الأوراق المالية) لن تهبط، انطلقت موجة من الإحساس العام جعل الجميع (باعة ومشترين) في حالة تشبه الهذيان في عمليات بيع وشراء الأوراق المالية والمقامرة بشتى أنواعها، وانعكست هذه الحالة على جميع الأنشطة الاقتصادية والخدمية، وانتعشت عمليات السوق وخاصة ما يتعلق منها بالقروض والتقسيط.

ومع تصاعد أعمال المضاربة، حقق المضاربون أرباحاً خيالية، وحدث تفاوت غير مسبوق في الدخول وتوزيع الثروات.

ومع نهاية عام ،1930 كانت الصورة للاقتصاد الأمريكي مرعبة، فقد اتسعت دائرة البطالة (14 مليون عاطل عن العمل)، وتراجعت أعمال البناء، وهبط الدخل القومي بشدة وعاد مستوى المعيشة إلى ما كان عليه قبل عشرين عاماً.

وبعدها تم إدخال تغييرات عملية في السياسة الاقتصادية، وتحويلها من اقتصاد سوق منفلت إلى التدخل المباشر من قبل الدولة. أما خلال الحرب العالمية الثانية، وفي ضوء تطوراتها، كان الاقتصاد الأمريكي يحصد من بعيد الآثار المدمرة للحرب، التي دخلتها أمريكا متأخرة، وكان موقعها الجغرافي قد أبعدها عن دمار الحرب، وقد كان الإنفاق العسكري هو عامل الخلاص للاقتصاد الأمريكي، ولذا كان هاجس التوقف عن الانفاق العسكري هو ما يشغل بال الحكومات والمفكرين الاقتصاديين، ذلك أن تخفيض هذا الانفاق يعني سحب الاقتصاد الأمريكي بأكمله إلى كساد خطير، ولذا فقد تم تصميم السياسة الأمريكية الخارجية على نحو يخدم باستمرار النمو الاقتصادي الأمريكي، وبالتالي فإن حالة من عدم الاستقرار والاضطراب والحرب ستستمر لخدمة أهداف الاقتصاد الأمريكي والطغمة الحاكمة والاحتكارات الرأسمالية العالمية.

ثم تابع الدكتور الحمش بأمثلته ليصل للسياسات الاقتصادية في دول أوربا (الغربية) حيث كانت تتمحور قبل الحرب العالمية الثانية، حول مكافحة البطالة في ظل اقتصاد السوق، وبعد انتهاء الحرب، بدأ صراع بين الأفكار والأنظمة لم يشهده التاريخ من قبل، وبدا واضحاً الصراع الإيديولوجي بين الليبرالية والاشتراكية، وما نجم عنه من صراع سياسي متعدد الوجوه بين الغرب (وعلى رأسه الولايات المتحدة) والشرق (بزعامة الاتحاد السوفيتي)، فضلا عن السباق بين أوربا والاتحاد السوفيتي واليابان من أجل تعمير ما خربته الحرب وتحقيق النمو الاقتصادي.

ونتيجة للتفاعل بين جميع هذه المعطيات الفكرية والسياسية، تصاعد دور الأحزاب والمنظمات الاشتراكية والنقابات العمالية، وفي ضوء الحاجة الماسة إلى اختيار النهج الذي ينبغي السير عليه اقتصاديا واجتماعيا، كان على أوروبا أن تختار ما بين النموذج الاشتراكي وفيه تكون قيادة الاقتصاد بيد الدولة وتترسخ الدعوة للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص واعتماد التخطيط المركزي، أو النموذج الليبرالي الاقتصادي الذي يترك المسار الاقتصادي لرؤية وممارسة ومبادرة القطاع الخاص والسوق وكانت أيضاً أمام تحدي النموذج الاشتراكي الناجح الذي تمثل في الاتحاد السوفيتي، وتحدي مهام إعادة الاعمار وتحدي تصاعد قوة المنظمات والأحزاب والنقابات الاشتراكية.

ومع وجود النموذج الأمريكي، وإغراءاته، وخاصة ما قدمه من ضمانات لتمويل مشروعات الإعمار بما بات يعرف بـ(مشروع مارشال)، بدأت تظهر معالم التسوية التاريخية بين رأس المال والعمل والدولة. ولكن بدأت علامات أزمة اقتصادية منذ منتصف ستينات القرن الماضي، إلى أن توضحت الأزمة مع بداية السبعينات، حيث تمثلت فيما دعي (الركود التضخمي)، إذ لأول مرة يتوافق الركود مع التضخم، حيث عجزت الأدوات والوسائل (الكينزية) عن مواجهة الأزمة التي رافقها حراك أيدلوجي – سياسي على مدى عشر سنوات تمخض عن انتصار المحافظين في إنكلترا برئاسة (تاتشر) عام ،1979 وانتصار الجمهوريين في الولايات المتحدة برئاسة (ريغان) عام 1980.

لكن علامات الأزمة بدأت تلوح في أفق النظام الرأسمالي العالمي، وبدأ الحديث في المحافل السياسية والاقتصادية عن الأزمة الجديدة التي ستضرب الاقتصاد العالمي انطلاقا من أهم التحولات التي حصلت في قطاع المصارف والتأمين والأوراق المالية والبورصة والمتاجرة بالعملات.

وحدث الانفجار في أيلول ،2008 في قطاع الائتمان العقاري وما رافقه من عمليات توريق لا سابق لها في التعاملات المالية، ثم انتقلت الأزمة بسرعة قياسية إلى باقي القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة، ثم إلى جميع أنحاء العالم.

واكد الحمش اعتقاده أن النظام الرأسمالي العالمي يمر الآن بمرحلة مخاض لا بد أن يسفر عنها سياسات اقتصادية جديدة، في مواجهة أزمة النظام الاقتصادي الرأسمالي المستمرة، التي لا يمكن أن تحلها إلا الحروب التي تشعلها الولايات المتحدة في جميع انحاء العالم، فقد تؤدي هذه الحروب كما يراد لها إلى زيادة مبيعات السلاح الأمريكي فتحرك عجلة الاقتصاد الأمريكي، ولكن هذا سوف يظل (علاجا) دمويا مؤقتا، فالأزمة هي في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، تلك الطبيعة القائمة على عدم العدالة وعدم المساواة والتكافؤ، وعلى شن الحروب من أجل استمرار الهيمنة على مقدرات الشعوب ومستقبلهم.

وأكد المحاضر أن المسألة باختصار بالنسبة للعرب إجمالا، ولسورية بوجه خاص، أن هناك مشـروعا أمريكيا – صهيونيا، يتمثل في المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير، يتضمن جانبين:

الجانب الأول: سياسي يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

الجانب الثاني: اقتصادي وهو التحول إلى اقتصاد السوق.

وفي النهاية طُرحت بعض الأسئلة والمداخلات من قبل الحضور.

العدد 1104 - 24/4/2024