استنساخ أمريكي للحرب الباردة

د. صياح عزام:

يبدو أن الولايات المتحدة لم تكتفِ بالنيران التي أشعلتها في أنحاء كثيرة من العالم، فقررت مؤخراً الانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى لتشعل سباق تسلح جديداً مع روسيا بعد سنوات من الالتزام بتلك المعاهدة، ولا تُعرف الأسباب الكافية وراء ذلك، هل لإثبات أن روسيا لم تتدخل في انتخابات الرئاسة كما يزعم البعض، بدليل تصعيد العداء معها، أم أن المؤسسات الأمريكية ولاسيما (الدولة العميقة) تريد استنساخ الحرب الباردة لاستعادة مكانة أمريكا؟

في الحقيقة لا أحد يستطيع تفسير القرارات الأمريكية في ضوء أن واشنطن تفعل الشيء وضده، ما يُشكل صعوبة على المتابع لتحليل سلوكها وتفسيره.

يعرف الجميع أن مواقف ترامب تجاه الرئيس بوتين كانت جيدة، وأشاد الرجلان كلٌّ منهما بالآخر، فهل تحاول الولايات المتحدة صنع أو اختراع عدو جديد لتشحذ الهمم للانطلاق مجدداً على أساس أن فترة الحرب الباردة كانت من أهم فترات التاريخ الأمريكي، خاصة أن خيار نقل العداء من الاتحاد السوفييتي إلى الإسلام استنزف طاقاتها، سواء أكان ذلك حربها على أفغانستان بعد 11 أيلول ،2001 ثم الحرب ضد العراق وانحيازها الأعمى لإسرائيل، وسياسة الكيل بمكيالين؟

ولهذا تحاول نقل المعركة من الشرق الأوسط إلى معركة روسيا وخاصة في مناطق نفوذ الروسي.

إن هذه السياسة بدأها أوباما لاستنزاف روسيا، وبالتالي ففي هذا السياق يمكن تفسير الخروج الأمريكي من معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، الذي ردت عليه روسيا بتعليق العمل بمعاهدة إنتاج الصواريخ المذكورة، وأكدت أنها تعمل على تطوير صاروخ أسرع من الصوت. وبالطبع فإن الدول الأوربية والصين والهند وباكستان وغيرها لن تقف متفرجة إزاء ذلك، علماً بأن هذا يترافق مع كثرة الصراعات وتهميش دور الأمم المتحدة، وهنا مكمن الخطر. في الوقت نفسه يشن ترامب حرباً تجارية على (التنين الآسيوي)، وحلف الناتو يدعم الموقف الأمريكي دون تحفظ، وبلا شروط، في حين تدعو الصين لضبط النفس ورفض الإجراءات الأحادية الأمريكية والعودة إلى التفاوض.

قبل تمزيق معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، كان الخلاف الأمريكي – الروسي يتمحور حول سورية وأوكرانيا، وقبل ذلك كان الأمن (السيبراني)، والآن تأتي أحداث فنزويلا التي دبرتها واشنطن من خلال اختراع رئيس جديد لها من عملائها ليحل محلّ الرئيس الشرعي المنتخب مادورو، تأتي لتوسع الخلاف ولتذكر بأزمة خليج الخنازير في مطلع ستينيات القرن الماضي.

إن الحرب الباردة التي تعيد واشنطن استنساخها، بعيدة إلى حد ما عن الصراع الإيديولوجي السابق، بمعنى أنه لا حاجة للعامل الإيديولوجي للشروع في حرب باردة جديدة مرشحة للسخونة، في ضوء (نَهَم) أمريكي للتوسع في النفوذ ونهب العالم.

الآن تتصدر القوة الصاروخية لدى روسيا والولايات المتحدة المشهد في حرب باردة بدأت تطل برأسها، خاصة مع حصول الانقلاب الأمريكي في فنزويلا الذي أشرنا إليه قبل قليل، وبدأت أمريكا في إنتاج ونشر الصواريخ في أوربا إلى جانب تحذيرات وجهها ترامب لروسيا وصلت إلى التهديد بالقوة لوضع حد لما أسماه ترامب بالتفوق الروسي الواضح في سلاح الصواريخ، بعد أن بنت روسيا ترسانة هي الأقوى في العالم في المجالين التقليدي والنووي من حيث العدد والتقنية العالية والمتقدمة جداً وما تملكه من قوة تدمير هائلة بحيث لا يستطيع أحد اعتراضها. وفي ضوء هذه التهديدات الأمريكية صرح وزير الدفاع الروسي بأن صواريخ كاليبر ستنشر على اليابسة خلال بضعة أشهر، كما تحدث عسكريون روس عن قدرات تدميرية خيالية لصواريخهم التي لا يمكن اكتشافها واعتراضها.

الخلاصة.. يعود سباق التسلح بعد أكثر من ثلاثة عقود من توقفه، يعود بمبادرة أمريكية في هذا السياق، هدفها استنزاف روسيا من جهة، ومحاولة الحفاظ على الأحادية القطبية التي كانت سائدة في العالم، إلا أن هذه المحاولة لن تنجح، فمسألة تعدد الأقطاب قطعت شوطاً كبيراً، وهي ماضية إلى الأمام.

العدد 1104 - 24/4/2024