النظام المؤسساتي في سورية

صفوان داؤد:

يرى الفيلسوف الاجتماعي الهندي الكبير أمارتيا سن أن تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية يتطلب وجود مؤسسات كفؤة وخاضعة للمساءلة، وأن المؤسسة هي من تحدد قواعد اللعبة في المجتمع، والمؤسسة هي البنية التي توجد لتحقيق اهداف محددة للمجتمع وفق سياق اجتماعي يتحقق تاريخياً عبر عقد سياسي معين. ويمكن تصنيفها ضمن فئتين رئيستين:

-المؤسسات السياسية، وهي المسؤولة عن صنع القرار السياسي، والقوانين، والتشريعات وقواعد تمثيل الأفراد والمجموعات.

-والمؤسسات الاقتصادية وهي التي تشمل حقوق الملكية والشركات التعاقدية.

لكن يبدو أن دور المؤسسة في سورية لا يحقق أياً من الشروط الأساسية، فقد أشار التقرير الوطني للتنافسية (2010) – أي في العام الذي سبق اندلاع الأزمة السورية- إلى ضعف شديد في الأداء المؤسساتي في سورية، خاصة البيروقراطية، الفشل في الإدارة العامة، هدر الأموال العامة، ضعف السياسات العامة الشفافة. في مقابل عدد من النقاط الإيجابية: ناتج محلي مقبول يقدر وسطياً بحوالي 45,4%، عجز مالي تحت مستوى 5%، ودين عام منخفض للغاية، واحتياطي النقد الاجنبي جيد بحوالي 18 مليار دولار. وسَجل عام 2010 موقعاً جيداً في مجالي الصحة والتعليم وهو ما جعل دور الدولة عاملاً رئيسياً في تحقيق التوازن التنموي عند الحد الأدنى، مقروناً مع:

أ) توظيف عالي في القطاع العام معادلاً مؤسسات غير كفؤة.

ب) دخل فردي منخفض معادلاً خدمات اجتماعية شبه مجانية.

ج) إنتاجية منخفضة معادلاً دعماً للسلع الأساسية.

مثل هذه المعادلات يمكن أن تعطي للنظام الحاكم سمة اجتماعية لكن غير مستقرة، إذ لا يمكن لهذه المعادلات أن تُضبَط في بيئة سياسية غير ديمقراطية تكون فيه القوى الاقتصادية محتكرة بشكل ما للقرار الاقتصادي، ويمكن لها أن تعرّض البلاد لحركاتٍ شعبية أو أزمات عنفية عند أي تحولات جيوسياسية كبرى.

وماذا حصل مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011؟

لقد وقع اقتصاد الدولة السورية تحت ضغوط هائلة أدّت إلى انهيار الدورة الاقتصادية فيه وتراجع حاد في الإنتاج، وانكشاف اقتصادي مع الشركاء التجاريين التقليديين. في 27 آب 2011 قام الاتحاد الأوربي بفرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على دمشق، تبعها في الثاني من أيلول حظر على واردات النفط السوري، وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه حُظِرت الشركات الأوربية عن القيام باستثمارات جديدة في قطاع النفط السوري. وفي الأول من كانون الأول من العام نفسه فرض الاتحاد الأوربي عقوبات جديدة على قطاع النفط في سورية شملت شركة تسويق النفط السورية (سيترول) والشركة السورية للنفط، كما حَظرت تصدير معدات فنية وقطع غيار لصناعة النفط والغاز السورية وأنظمة التحكم ومراقبة الإنتاج، وهذه العقوبات كانت عاملاً حاسماً في تدهور وانهيار قطاع النفط السوري. وأخيراً قانون سيزر الأمريكي في العام الحالي.

وكاستشراف مستقبلي للسؤال حول النسق الاقتصادي، بعد انتهاء المعارك الكبرى في سورية مع نهاية عام ،2018 نستقرئ ومن مقاربة لبعض نماذج البنى الاقتصادية بعد عقد من الزمن، لدولٍ خرجت من حربٍ أهلية أو تغير دراماتيكي في نظامها السياسي (روسيا، لبنان، العراق، كرواتيا)، يبدو الوضع في سورية على المدى المتوسط مشابهاً إلى حد ما للدول السابقة؛ البنية الاقتصادية-الاجتماعية تقودها مجموعات اقتصادية احتكارية لاقتصاد السوق هي التي ستحدّد شكل مستقبل سورية وليس التعبئة الإيديولوجية، كما كان سائداً خلال الخمسين سنة الماضية. القرارات التشريعية التي يمكن أن تنسحب أو على الأقل تؤطّر امتيازات قوى الاحتكار من الذين يشكلون القاعدة الرئيسية للسلطة مستحيلة. يعكس هذا التصور تقديرات البنك الدولي التي تقول انه (إذا انتهت الحرب عام ،2017 فإن (الاقتصاد السوري سيستعيد على مدى السنوات الأربع التالية 41% من الفجوة مقارنة مع مستواه قبل الصراع، وستبلغ الخسائر الناجمة عن الصراع 6,7 أضعاف إجمالي الناتج المحلي قبل نشوب الصراع على مدى عقدين من الزمن… كما نقدر أن عدد السوريين الهاربين عبر الحدود بحثاً عن الأمان سيتضاعف بين السنة السادسة والسنة العشرين من الصراع).

ومع اضمحلال الحيوية البرلمانية وحرية التعبير، وبغياب تام للعملية الديمقراطية، أضحى الاتجاه العام للاقتصاد السوري متوافقاً مع تطلعات البرجوازية الحديثة الناشئة أو (البرجوازية المُلبرلة) المتضخمة عن عقدين من الفساد، وهذه البرجوازية هي في قسم كبير منها شريحة فوق القانون، وبذلك سوف يكون من الصعب، بل من المستحيل أن يتمكن النظام المؤسساتي للدولة السورية مستقبلاً من تحسين الوضع الاقتصادي، إن كان على مستوى دخل الفرد أو مسائل أخرى متعلقة بالتضخم وضبط الدين العام. على سبيل المثال وبحسب موقع (الصناعي السوري) سجلت نسب تنفيذ خطط مؤسسات القطاع العام الصناعي انخفاضاً شديداً، وبلغت نسبة تنفيذ الخطة الاستثمارية في النصف الأول للعام 2018 لمجموع المؤسسات الصناعية العامة نحو 8,9% فقط، مع قيم إنتاج محلي إجمالي منفّذ بلغت 18% وناتج محلي إجمالي 8,9%. وعلى ذلك من المفترض أن الكتلة النقدية الضرورية من أجل دعم الرواتب والتعويضات الاجتماعية والصحية والسكنية وغيرها ستكون غير متوفرة. بل هناك نسق منطقي يتعلق بحتمية تآكل الكتلة النقدية التي تدخل في دورة الاقتصاد الريعي؛ فامتصاص الفساد الممنهج لهذا الاقتصاد، سيقود حتماً إلى استهلاك الكتلة النقدية، التي تفتقر إلى الإيرادات.

العدد 1104 - 24/4/2024