سباق تسلح جديد تسعى له واشنطن!

د. صياح عزام:

بعد إقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة المدى، ارتفع منسوب القلق في الغرب عامة وخاصة في أوربا، لأن هذه المعاهدة تعدّ أساس الحد من التسلح، الأمر الذي قد يقود إلى سباق تسلح جديد.

الآن هناك مخاوف حقيقية من قيام الولايات المتحدة الأمريكية بنشر جيل جديد من الصواريخ النووية في العالم، بذريعة مواجهة تطوير أسلحة روسية، ما شكّل، حسب مزاعم واشنطن، انتهاكاً روسياً للاتفاقيات بهذا الشأن.

ولكن في كواليس الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة، غايات جيوسياسية أبعد من ذلك بكثير، إذ إن قرار الانسحاب من المعاهدة المذكورة أعلاه وإنتاج صواريخ جديدة متوسطة المدى، لا يأتي فقط في سياق بدء سباق تسليح جديد، إنما يصب في محاولات الإدارة الأمريكية احتواء الدول الأوربية وزعزعة العلاقات مع موسكو وبكين من جهة، وإعادة ضبط خريطة العالم وفق (الأنا) الأمريكية، بعد سلسلة قرارات وإجراءات تجارية وقانونية دولية، بدءاً من الانسحاب من الاتفاقيات التي تحدّ من (قوة واشنطن الإمبراطورية)، وانتهاء بإشعال حرب تجارية وفرض رسوم على واردات الحلفاء قبل الأعداء، خاصة أن أكثر ما يقلق العقل الأمريكي ويشلّ قدرته على التفكير هو إمكانية حصول تقارب روسي – أوربي يعيد الأمور إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وما التصريحات الأمريكية التي يزعم أصحابها فيها أن روسيا انتهكت معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى سوى ذريعةٍ لتجييش الحلفاء الأوربيين ضد (البعبع) الروسي، في إشارة إلى أنه تهديد بانهيار نظام الحد من التسلح، ذلك أن واشنطن ستفعل كل ما في وسعها لتنفيذ استراتيجيتها في أوربا أولاً بعد فشل استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فهي تسعى لضبط القارة الأوربية وفق التقويم الأمريكي، مستفيدة من نفوذها داخل (الناتو)، ما يجعلها قادرة على تغيير ميزان القوى بحيث يتلاءم مع مقولة (القرن الأمريكي)، إلا أن واشنطن عليها أن تعرف أن العالم قد تغير بشكل جذري، خاصة بعد استخدام روسيا والصين للفيتو المزدوج في مجلس الأمن لإسقاط مشاريع قرارات أمريكية ضد دول وشعوب صغيرة في سياق مخططاتها للهيمنة على العالم. والآن روسيا والصين قادرتان على إفشال المخططات الأمريكية الجديدة، فكلتاهما (أي الصين وروسيا) حققتا نتائج فعالة وملموسة في مواجهة الاستراتيجية والمشاريع الأمريكية، علاوة على ذلك قد تلجأ روسيا لنصب صواريخ في كوبا أو القرم أو سورية أو دونباس رداً على التحديات والإجراءات الأمريكية الأخيرة.

لا شك في أن كلام الرئيس فلاديمير بوتين حول أنه سيتخذ تدابير جوابية وإجرائية عسكرية، يشير بوضوح إلى قرب تنفيذ ذلك، إذ إنه لا يتحدث عن ذلك عبثاً.

وهكذا يتضح من خلال ما تقدم أن سباق تسلح جديداً قد بدأ بمبادرة أمريكية، وخاصة بعد خروج الولايات المتحدة من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة وقصيرة المدى الذي بدأ نفاذه في الثاني من شهر شباط الحالي 2019، والذي ردت عليه روسيا بتعليق التزامها بالمعاهدة المذكورة، وكشفت أنها تعمل على صنع صواريخ موجهة تركب على مركبات مدرعة وعلى تطوير صاروخ أسرع من الصوت.

إذاً، الولايات المتحدة الأمريكية هي التي انسحبت من هذه المعاهدة أولاً، وهي التي تجر روسيا إلى سباق تسلح، ولا شك بأن دولاً أخرى مثل الصين والهند وباكستان لن تقف متفرجة تجاه ذلك، ويترافق ذلك كله، مع ازدياد الصراعات في العالم وتهميش دور الأمم المتحدة، مع العلم بأن ترامب وقّع في شهر أيلول الماضي على مشروع قانون الدفاع الوطني، ووافق على تصميم صواريخ تنتهك بنود هذه المعاهدة قبل أن يعلن الانسحاب منها، ووافق أيضاً على نشر الدرع الصاروخية على الأراضي الأوربية وفي اليابان وكوريا الجنوبية، إضافة إلى نشر أكثر من 200 قنبلة (بي 61) في ألمانيا وهولندا وتركيا ودول أوربية أخرى.

باختصار، روسيا اليوم في ظل قيادة الرئيس بوتين ليست روسيا غورباتشوف ولا روسيا يلتسين الانهزامية، بل هي تقول (لا) مدوّية للغطرسة الأمريكية.

العدد 1104 - 24/4/2024