عبق من روح

مروة قوادري:

من أحد الأزقة الدمشقية ظهرت ملامح طفولته الشقية، فكانت شخصية نادرة في حضورها وتألقها، قدم العديد من الأدوار في المسرح والتلفزيون، دون أن يكتشف أحد أن هذه الشخصية النسائية البسيطة هي في حقيقتها رجل يرتدي ملاءة سوداء فوق لباس ذكوري. بل من الطرافة أن تتعرض في بعض الأحيان إلى طلب القبول بالزواج من الفنان المصري حسن فايق، الذي طلب الزواج منها رسمياً بسبب إعجابه بهذه المرأة العفوية، والأكثر من ذلك أنه طلب من أحد الفنانين السوريين إقناعها بقبول الزواج منه، وهي تخبئ وجهها، وتبدي خجلها، وتداري ضحكتها تحت ملاءتها، لتنهض فجأة وتخلع الملاءة السوداء، فإذ هي رجل يرتدي طقماً رسمياً. هكذا كانت أم كامل، بل هكذا كان أنور البابا. نعم إنه الفنان المحترف :أنور البابا، فنان سوري متعدد المواهب، من مواليد مدينة دمشق لعام 1925 م، متزوج من الأديبة اعتدال رافع، وله ابنتان. تلقى علومه الابتدائية في إحدى مدارس مدينة دمشق، انتسب إلى مكتب عنبر الشهير، لكنه لم يستطع متابعة الدراسة بسبب سوء وضعه المالي، فلجأ إلى ممارسة بعض الأعمال إلى جانب دراسته لتدر عليه مكسباً مالياً يساعده على إتمام دراسته. وقد بدأ بتحقيق حلمه في التمثيل في العام 1937 م، فشارك بعدد من المسرحيات المدرسية مع أنور المرابط، وعبد اللطيف فتحي، وتيسير السعدي، وحكمت محسن وغيرهم من أصدقاء الدراسة. وفي العام نفسه جمعته الهواية مع أصدقائه وبعض الفنانين ليشكلوا باقة مؤلفة من : فهد كعيكاتي، وتيسير السعدي، وعبد السلام أبو الشامات، وأخذوا يتدربون على تمثيليات صغيرة يقدمونها في البيوت وسهرات السمر، وبعض الأفراح. ولم يكتفوا بعرض مواهبهم في مدينة دمشق، لإشباع تلك الهواية، فكانت أولى العروض التي قدموها تمثيلية (آتاتورك) وهي عبارة عن تمثيلية صغيرة تعرض لمدة نصف ساعة، إلا أنها كانت بمثابة بذرة درامية لعمل تمثيلي متكامل. وتلت تلك التمثيلية مسرحية صغيرة أيضاً كانت بعنوان (جريمة الآباء) وقد عرضت على خشبة مسرح العباسية في العام 1938 م، ثم شارك بعدها مع فرقة (أمين عطا الله) في المسرح المصري. وعندما حصل على الشهادة الاعدادية توظف في رئاسة مجلس الوزراء، مما ساعده على تشغيل فرقته التي توسعت لتشمل (خمسة عشر ممثلا) أما النقلة النوعية في تاريخ شخصية أنور البابا (أم كامل)، فكانت عندما داهم سورية وباء (الكوليرا)، فتم تنظيم حملة إذاعية لتوعية الشعب من مخاطر المرض، شارك فيها البابا بدور أم كامل، ولقيت التمثيلية إعجاباً كبيراً، فكانت بمثابة ولادة جديدة لموهبة أنور البابا، ومن يومها تقمص أنور هذه الشخصية الساحرة لينثر شذى عطرها في سورية وبعض البلاد العربية. أما في عام 1960 م فقد ظهرت شخصية أم كامل لأول مرة على خشبة المسرح لتكون أولى الشخصيات التي جسدت العنصر النسائي قبل أن تدخل المرأة العمل حينها، ولكنها فيما بعد حافظت على وجودها وتألقها من خلال معاصرتها لعمالقة الفن في سوريا والوطن العربي، ونسجت معهم الكثير من الحكايا التي كانت تسرقها من العجائز لتضفي عليها ظلالاً وتوظفها في خدمة الفن، مما جعله يفوز بإعجاب الجماهير لثلاثين عاماً أو ما يزيد، وتترك بصمة لا يمكن لأحد أن ينساها في تاريخ الفن العربي السوري.

العدد 1105 - 01/5/2024