الاستثمارات.. والشراكات

وضع مجلس الوزراء منذ أيام ملاحظاته النهائية على مشروع قانون الاستثمار الجديد.

لن نناقش هنا مضمون هذا المشروع، إذ سنفرد له دراسة خاصة قريباً، لكن البعض بالغوا كثيراً في (نفخ) مشروع هذا القانون، ونسبوا إلى مفاعيله الآتية (معجزات) وحدها ستنهض باقتصادنا الوطني الذي تعرض لحالة ركود شديد بسبب تداعيات الأزمة والغزو الإرهابي والحصار الجائر.

من البديهي أن تبذل الجهود الحكومية من أجل جذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية، بهدف ضخ قدرات جديدة في القطاعات الاقتصادية السورية، تساعد على زيادة الإنتاج، وتطوير البنى التحتية، وخلق صناعات جديدة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، لكن من البديهي أيضاً أن تضع أية حكومة أوليات لاستثماراتها العامة والخاصة، تنسجم مع المرحلة التي يمر بها اقتصادها، وهذا ما يسمى في عالم الاقتصاد: (توجيه الاستثمارات).

في العقد الماضي شجعت الحكومات المستثمرين.. وأصحاب الرساميل العربية والأجنبية، فتوجهت هذه الاستثمارات إلى القطاعات الريعية، وعُرضت المواقع السياحية والمشاريع على المستثمرين لتوظيف أموالهم في تلك المشاريع، وقد أثمرت تلك الجهود عن توقيع  العقود مع البعض، كما روجت الحكومة لاقتراحات أمام مجموعات من المستثمرين العرب لجذبهم إلى الاستثمار في مشاريع عقارية من فئات النجوم التي تزيد عن خمسة، لكننا لم نتلمس جهداً موازياً لتطوير الصناعة السورية بقطاعيها العام والخاص، ومساعدتها، خاصة في القطاع العام، لتحديث وسائلها التقنية،  وتطوير قدراتها الإنتاجية، ورفدها بالتكنولوجيا الحديثة، بل أكثر من ذلك، إذ فتحت الأبواب للصناعات القادمة من أصقاع الأرض  لمنافسة صناعتنا الوطنية في عقر دارها، في وقت كانت الصناعة السورية تحتاج فيه إلى دعم الدولة للوقوف على قدميها، فراوحت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي بين أعوام 2006 و 2010، بين 7و 11%، كذلك تواضعت الاستثمارات العامة والخاصة في القطاع الزراعي، فالبعض في  الفريق الاقتصادي للحكومات كان يعول على إلغاء  شراء المحاصيل الاستراتيجية من المزارعين، والحصول عليها من البورصات والأسواق العالمية بذريعة توفير الدعم الحكومي لأسعار هذه المحاصيل!

الشراكة بين القطاعين العام والخاص هي شكل من أشكال التعددية الاقتصادية، ويمكننا أن نعدها ركناً رئيسياً من أركان التنمية في البلدان النامية، وهي مظهر من مظاهر مشاركة الرأسمال الوطني في الخطة الاقتصادية للدولة. لقد طالبنا الحكومات المتعاقبة في العقد الماضي باجتذاب الرساميل الوطنية المنتجة عبر شراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص المنتج، لا الرساميل الريعية، للمساهمة في المشاريع الحكومية المدرجة في خطط الدولة الخمسية، بهدف تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية عن طريق تجديد هياكل البنى الاقتصادية الرئيسية كالزراعة والصناعة، وإنشاء وتأهيل البنية التحتية اللازمة للقطاعات الإنتاجية، وإنشاء وتجديد مستلزمات التنمية الاجتماعية كالمدارس والجامعات ومراكز التأهيل المهني، خاصة في المناطق المظلومة، وذلك وفق صيغة تضمن عائداً مقبولاً للرأسمال الخاص المستثمَر، وتتيح للحكومة تنفيذ خططها التنموية، واستمرار سيادتها كممثل للشعب على القطاع العام والمرافق الحيوية، إلاّ أن مهندسي الاقتصاد السوري آنذاك، اختصروا مبدأ المشاركة بين القطاع العام والخاص، بأن منحوا القطاعَ الخاص الوطني والأجنبي صناعاتٍ أساسية يملكها القطاع العام، وبعض المرافق الاستراتيجية، بهدف استثمارها وفق أسلوب  B.O.T، أي البناء والتشغيل لمدة يتفق عليها مع الحكومة، ثم إعادة هذه المرافق بعد (عمر طويل) إلى الدولة.

 

الأزمة.. والتشاركية

الأزمة عصفت باستقرار بلادنا ثماني سنوات، والدماء سالت في مختلف المناطق، واستمر خلالها التخريب الإرهابي المتعمد لكل ما أنجزته أيدي السوريين في العقود الماضية، وتساقطت منشآتنا الحيوية وقطاعاتنا المنتجة وبيوت المواطنين وأملاكهم مهدمة.. أو محروقة.

لقد تسببت الأزمة بأضرار بالغة لقطاعات الإنتاج والرساميل والمصارف والاستثمارات، وتراجعت مؤشرات الاستهلاك والادخار، أي بكلمة واحدة تراجعت جميع المؤشرات الاقتصادية، وخاصة في ظل الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها على سورية. أما في الشق الاجتماعي، فكان أبرز التداعيات ارتفاع نسب الفقر والبطالة والهجرة الداخلية والخارجية، وما أدت إليه من معاناة شديدة مستمرة، أفقرت المواطنين السوريين.

لذلك، نعتقد أن جوهر مبدأ التشاركية في الوقت الراهن عليه أن يتسع لمضامين أوسع، تأخذ بالحسبان لا المشاركة بين الدولة والقطاع الخاص المنتج في هذا المصنع أو ذاك، أو تطوير حقل نفطي أو غازي في هذه المحافظة أو تلك، بل يتسع ليشمل شراكة حقيقية من أجل إعادة إنهاض الاقتصاد السوري وقطاعاته المنتجة، وخاصة الصناعة والزراعة وبنيتهما التحتية، وتطوير المرافق العامة، وإعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة على الصعيد الوطني.

أما الشرط الرئيسي لنجاح التشاركية في الظرف الراهن، فهو نجاح المساعي الدولية والداخلية لإنهاء الأزمة السورية عبر الحلول السياسية، فدون ذلك لن يوجد الاستقرار الذي يعد العامل الأساسي لنجاح السياسات الاقتصادية المستقبلية.

لماذا الصناعة والزراعة؟

لأنهما بداية عماد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والنشاطان الرئيسيان لفئات المجتمع السوري المختلفة، ويستأثران بالنسبة العظمى من اليد العاملة السورية، ويساهمان بالحصة الكبرى من الناتج المحلي الإجمالي، وتعتمد على إنتاجهما قطاعات التصدير السورية وشبكة واسعة من النشاطات الحرفية، كذلك لأنهما يشكلان السند الرئيسي لإيرادات الخزينة العامة.

لقد أدت تداعيات الأزمة إلى إلحاق أضرار وخسائر كبيرة بالقطاع الصناعي بشقيه الخاص والعام،

وكان القطاع الزراعي من أكثر القطاعات تضرراً، لا بسبب تقلص المساحات المزروعة بنسبة تبلغ نحو 35% فقط، بل بسبب هجرة اليد العاملة الزراعية، وصعوبة تأمين مستلزمات الزراعة من بذار وسماد وعلف، إضافة إلى الهم الأكبر وهو تأمين المازوت اللازم لعملية الري بعد زيادة أسعاره، وصعوبة وصول الإمدادات الحكومية إلى المناطق الزراعية في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد.

لذلك لا يمكننا فهم مبدأ التشاركية بين الدولة والقطاع الخاص بعيداً عن متطلبات إنهاض الاقتصاد السوري بعد (سنوات الجمر)، وهي تعني بكل المقاييس التركيز على المشاريع المشتركة مع القطاع الخاص في الصناعة التحويلية والزراعة، ومشاريع البنية التحتية الضرورية لتطوير هذين القطاعين.

العدد 1104 - 24/4/2024