ضرورة وجود الحزب الشيوعي واستمراره في عصر التوحش الرأسمالي

بولس سركو:

يدفع فيض الكذب والتضليل الدعائي بعضهم للسؤال عما إن كان حزبنا الشيوعي والأحزاب الشيوعية عموماً ما تزال موجودة، ويذهب الأشد تطرّفاً إلى قناعة ملقنة بانتفاء الحاجة إلى وجود هذه الأحزاب، بذريعة تجاوز زمننا للفكر الماركسي اللينيني الذي أصبح من الماضي، حسب الصياغة اللبرالية الجديدة الرائجة اليوم، كرواج صياغة (النهايات)، في النقاشات العفوية التي تظهر عمق التأثر بالتضليل الدعائي، فبدعة نهاية الاشتراكية تفترض نهاية مفهوم الصراع الطبقي، تفترض نهاية الأحزاب الشيوعية الممثلة لمصالح الطبقات المسحوقة، تفترض نهاية التاريخ كسلسلة مترابطة.

لكن عجلة التاريخ تدور وستدور أبداً إلى الأمام، واللحظة التي نعيشها اليوم والتي تبدو لمنظري (النهايات) وقطيع أنصارهم حتمية ثابتة إلى الأبد، ليست في منطق التاريخ أكثر من مجرد لحظة – لحظة غير معزولة عن ماضيها ولا عن مستقبلها – دور الأحزاب الشيوعية وتأثيرها فيها تحديداً تضاءل، لأسباب موضوعية وذاتية، جرى تداركها وما زالت هذه الأحزاب قائمة ومبررات وجودها تزداد مع ازدياد الفوارق الطبقية والنزعة الاستعمارية البربرية التي عادت لتجتاح العالم، ويعتبر استمرار الهجمة الهستيرية المعادية للشيوعية، حتى وهي في حالة التراجع، دليلاً على  الخطر الذي ما زالت  تستشعره الدوائر الرأسمالية من وجود الشيوعية.

إن جردة حساب تاريخية لفاتحة ما سمي بالقرن الأمريكي الجديد، بعد إزاحة أكبر عقبة كانت تمنع انقضاض واشنطن على شعوب العالم ودوله، بانهيار المنظومة الاشتراكية، تظهر لنا الضرورة القصوى لوجود الأحزاب الشيوعية واستمرار نشاطها، ففي لحظة الانهيار (1991) ظهر الوحش الرأسمالي المقنّع بالقيم الإنسانية، لمن غابت عن ذاكرتهم مجازره ضد الهنود الحمر واليابانيين والتشيليين والفيتناميين والإندونيسيين وغيرهم، على وقع 880 ألف طن من القنابل المحملة باليورانيوم المخصب التي أمطرت مدن العراق، فوق رؤوس المدنيين العزل وكانت تلك فقط الدفعة الأولى من ثمن التذكرة الدامية التي ترتّب على الشعوب دفعها لدخول القرن الأمريكي الجديد.

بعدها تعاقبت الدفعات تباعاً، ففي عام 1999 كان الغزو الأمريكي لكوسوفو، ثمّ لأفغانستان (2001)، وللعراق مجدداً (2003)، وعندما بلغت تكاليف القتل والتدمير في هذه الغزوات، بحسب (معهد واتسون للدراسات الدولية)، 5 تريليونات و600 مليار دولار، اجتهد مخططو الإدارة الأمريكية في ابتداع بدائل غير مكلفة، حروب بالوكالة، وتحديث لخطط (جين شارب) الخاصة بتدمير الدول من داخلها (تصدير الثورة) المجرّبة في أوربا الشرقية سابقاً، فكانت تجربتها الأولى في محيطنا ثورة الأرز اللبنانية (2005) التي انزلقت إلى الغزو الإسرائيلي للبنان (2006)، والتجربة الثانية في تونس (أواخر2010) في أحداث ما سمِّي بالربيع العربي الذي انزلق في النهاية نحو غزو سورية (2011) بمرتزقة متخلفين، سيقوا من  93 دولة في العالم بالعصبية المذهبية، وأدارت مجازرَهم الوحشية المروعة على الأرض السورية غرفُ عملياتٍ تعجّ بضباط مخابرات أمريكية، بريطانية، فرنسية، تركية، إسرائيلية، سعودية، قطرية، وأردنية.

لا شك أن لوصول العالم إلى هذا الحد من الانحطاط والاضطراب والتوتر والعنف الوحشي، كما لكل ظاهرة، أسباباً ذاتية وموضوعية، فالفساد والخلل في إدارة المجتمعات قد رفد الخطط الأمريكية بجيوش من المهمشين داخل الدول المستهدفة، ولكن يطرح بقوة هنا السؤال: ما الذي دفع 21500 من المسلمين المتمتعين بالحقوق ورغد العيش في المجتمعات الديمقراطية: (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي) إلى التخلي عن نعمتهم والمجازفة بحياتهم في الجحيم السوري بحماس منقطع النظير؟!

نعثر على الجواب في الإيديولوجيا الغيبية اللاعقلانية التي تلقاها هؤلاء الشباب سواء في الغرب أو الشرق، لقد كانوا عرضة لتحريض نمط الثقافة غير الانسانية وغير الأخلاقية، التي كرستها في وعيهم تشكيلات سياسية (جديدة قديمة) بنيت وعُمِّمت لتغطي سطح المشهد السياسي في العالم بأموال أمريكية سعودية، تشكيلات ليبرالية جديدة ودينية رجعية ومنظمات مجتمع مدني وحقوق إنسان يجمعها هدف أمركة العالم، بالمخاطرة في خلق أجيال من الجهلة ذوي النزعات المتطرفة والفردية الأنانية، تسهل عملية تحويلهم إلى لصوص سفاحين وقطاع رؤوس وطرق واقتيادهم بصفة ثوار، نحو جبهات قتال أعداء واشنطن  الرافضين الخضوع للهيمنة، المحافظين على كرامتهم وسيادتهم الوطنية .

إن تراجع دور الأحزاب الشيوعية خلق فراغاً شاسعاً للتشكيلات السياسية المعولمة أمريكياً، أتاح لها أن تعبث في وعي أعداد كبيرة من الناس وتقلب وجهتهم الفكرية وتجردهم من إنسانيتهم. لم تترك واشنطن وسيلة قذرة إلا استخدمتها، فمن يشن الحروب، في قرصنة وقحة على القانون الدولي، لا يتورع عن ارتكاب أية حماقة أخرى بحق الشعوب من أجل تحقيق أهدافه ومصالحه. فكل العالم مستباح لبلطجة واشنطن، يكفي أن نعرف أن وكالة الاستعلامات للدفاع وحدها تشغل  100000جاسوس موجودون في كل مكان، بميزانية 26 مليار دولار، لتنظيم المؤامرات والدعاية السياسية وشراء ذمم المثقفين والإعلاميين والفنانين، والاغتيالات وممارسة مختلف أشكال الحصار والضغوط الاقتصادية والعقوبات، لتنفيذ السياسات العدوانية وإجبار الدول التي لم تعد تملك سوى الخضوع الطوعي أو الإخضاع القسري، على تقديم مواردها للخزينة الأمريكية، فلم تسلم دولة صغيرة أو كبيرة في العالم بمن فيها الحليفة والتابعة لواشنطن، من تهديد شبح الهيمنة.

الملايين قضوا في حروب واشنطن العسكرية والاقتصادية والثقافية التي لا تنتهي، ومئات الملايين جُرحوا وأعيقوا وشردوا وفقدوا أو ماتوا جوعاً، وأنفقت أرقام مهولة من الأموال على قتلهم وهدم مدنهم وقراهم وتشويه حقائق تاريخهم بدلاً من إنفاقها على أمنهم وحل مشاكل تنامي فقرهم وبطالتهم، وعلى تنميتهم ووقف تلوث بيئتهم، في وقت كانت كل الأحزاب المعولمة أمريكياً تشرع قتلهم وتنشر مفهوم اللامساواة في وعيهم لموت مستحق بشعور من الذنب يبرئ القاتل ويمنحه مرتبة المخلص.

في ظل هذا التوحش المنهجي، وما نجم عنه من كوارث هي فوق طاقة الأفراد والجماعات الفوضوية القاصرة عن حماية البشر، ونحن ما زلنا في الربع الأول مما سمي بالقرن الأمريكي الجديد، فماذا ستكون نتيجة قرن كامل إذا تحقق حلم الإمبرياليين الجدد بذلك!؟

من يحول أنين الجياع إلى صرخة مدوية منظمة في وجه الظلم والتسلط والطغيان؟ من ينقذ المسحوقين من مستنقعات الدم الطائفي المذهبي والعرقي؟ من يوجّه رؤيتهم نحو عدوهم الحقيقي المتلاعب بوعيهم، ويبعث في نفوسهم الأمل بالمستقبل وبالعدالة الاجتماعية وبالكرامة الوطنية والإنسانية وبالتحرر من ضغط الحاجة؟

إن ضرورة وجود الحزب الشيوعي، اليوم، واستمراره، تفوق أضعاف المرات كل مراحل التاريخ السابق، فلا يوجد بين التشكيلات السياسية المعولمة التي مارست وتمارس الغش الفلسفي من يمثل طبقة لها كامل الحق في المشاركة في الفعل السياسي، لها هويتها وحقوقها وسيادتها المنتهكة.

حزبنا الشيوعي صاحب أعرق تجربة سياسية لحزب سوري، نشأ وتطور في أصعب الظروف وأقساها طوال 94 عاماً، فلم تحنِ قامته رياح العولمة الأمريكية، لم تكسر إرادته النضالية الصلبة، ولم تحيده عن الإيمان بسيادة الوطن وبالنضال الطبقي كمفتاح لفهم التاريخ ومحرك للأحداث، حسب التعبير اللينيني، وسيظل يحمل على عاتقه شروط نضوج الجماهير وتطور طبقتها الكادحة من جديد، وهي مسؤولية سياسية وجدانية أخلاقية وواجب إنساني من قلب الفكر والممارسة معاً، لم يتخلَّ عنه سوى اليائسين المهزومين والانتهازيين.

العدد 1104 - 24/4/2024