موت موظف
عبد الرزاق دحنون:
كان إيفان شيرفاكوف، بطل قصة الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف، يجلس في الصف الثاني من مقاعد الصَّالة يُشاهد إحدى العروض المسرحية المموسقة، وكان يستشعر لذلك سعادة غامرة، بل ويعتبر نفسه أسعد بني البشر. وفجأة، لا يستطيع الكتّاب أن يكفّوا عن استعمال كلمة فجأة مادامت الحياة مليئة بالمدهشات والمفارقات والمنغصات والعطسات، فجأة عطس. كل إنسان يعطس، كل إنسان، ما المشكلة في ذلك؟ حتى جدي عثمان دحنون، وكان فلاحاً مُرابعاً_ رحمه الله_ كان يعطس في الدقيقة سبع عطسات متتاليات وننتظره حتى ينتهي من عطساته لنقول له: يرحمكم الله يا جدي! ولكن هذا الموظف الروسي البسيط، بعد أن عطس، أصبح أتعس مخلوق على وجه الأرض. كيف ذلك؟
كان يجلس، يا سادتي، في الصف الأول من المسرح أمام موظفنا تماماً، أحدُ الجنرالات، بلباسه العسكري، وكان يخدم في إدارة مدنية هي إدارة الهجرة والجوازات. شاهد وسمع موظفنا صاحب السعادة الجنرال يمسح صلعته وقفاه ويُتمتم بكلمات غامضة غير مفهومة، ثمَّ يستأنف العرض المسرحي.
وبدأ عذاب موظفنا، أكل الندم قلبه، نعم، يا لتلك العطسة اللعينة التي تفلَّتت منه وغيَّرت حاله من الفرح إلى الترح! وراح يُطارد الجنرال باعتذاره. طارده في الصالة: إني عطست عليكم، لم أقصد أن أُبلّلكم كما تعلمون، يا سيدي! ثمَّ طارده في الاستراحة: لقد عطست عليكم يا صاحب السعادة فاغفر لي، أنتَ تعلم أنني لم أقصد. ثمَّ واصل الاعتذار بتأثير تصاعدي دفع الجنرال إلى ضيق تصاعدي. وعاد موظفنا إلى بيته مهموماً وأخبر زوجته بما حدث، فشجَّعته على الذهاب إلى الجنرال حتى لا يظنه رجلاً غير مهذّب لا يُحسن التصرف. وفعلاً ذهب في اليوم التالي ليطارد الجنرال باعتذاره، وزعق الجنرال: إنك تضحك مني يا سيدي! وأغلق الباب في وجهه. قال في نفسه: أضحك؟ ليس في الأمر ما يُضحك، ألا يفهم وهو جنرال؟! سوف أكتب له رسالة اعتذار ولن أذهب إليه مرة أخرى، لن أذهب! لم يكتب الرسالة، وظلَّ يُفكر ويُقلّب الأمر على أوجهه كافة، ولكنه لم يستطع كتابة كلمة واحدة. لذلك كان لا بد أن يذهب إلى الجنرال من جديد لاستجلاء كنه هذه العطسة المستعصية على الفهم. وذهب. فصاح الجنرال من قحف رأسه وهو يهتزُّ من الغضب عند رؤيته إيفان شيرفاكوف: اخرج من هُنا! وأخذ موظفنا يُتمتم وهو يرتعد رُعباً: أطلب من سعادتكم المغفرة! وكرر الجنرال وهو يضرب الأرض بقدمه: اخرج! وأحسَّ موظفنا كأن شيئاً قد تهشَّم في داخله، وظلَّ يتراجع وهو لا يسمع أو يرى شيئاً، ومشى في الشارع كالسائر في نومه يترنح بحركة آلية حتى وصل إلى المنزل، وألقى بنفسه على الأريكة كما هو بمعطفه الجديد ومات.
مات؟ أجل مات. ما السبب؟ لقد حيَّر إيفان شيرفاكوف النُّقاد بهذا الموت البسيط، فذهبوا مذاهب شتى. موته جعل من هذه القصَّة القصيرة تحفة فنية خالدة.
ولكن ها هو أكاكي، بطل قصة (المعطف) المشهورة لكاتبها الروسي الأصيل نيقولاي غوغول يموت بسبب معطف: أكاكي مثل إيفان شيرفاكوف كان موظفاً بسيطاً، وكانت غاية غاياته أن يشتري معطفاً. ويستطيع أكاكي بكثير من الجهد والصبر والمُثابرة والدأب والإصرار أن يخيط معطفاً جديداً بعد شهور من التقتير والتوفير، فيرتديه ويُحسّ لأول مرة في حياته أنه كائن ذو أهمية. ولأول مرة يُعجَب به زملاؤه ورؤساؤه ويُقدرونه. ويُقيم أحد الزملاء له حفلاً احتفالاً بالمعطف الجديد. ولكن أثناء عودة أكاكي من الحفل متأخراً ينقضُّ عليه لصّان ويضربانه ويسلبانه المعطف، أعزَّ ما يملك في الوجود، بل الشيء الوحيد الذي يملكه. بل سلباه وجوده. وهكذا يجرجر أكاكي قدميه حزناً وغمَّاً على المعطف. يصل إلى المنزل وعلى الأريكة، بلا معطف جديد، يموت. فهل مات إيفان شيرفاكوف هو الآخر حزناً وكمداً على نفسه المسلوبة المعذَّبة؟ على قلبه المأكول؟ أم مات لأنه كان موظفاً بسيطاً نقيَّ النفس صافي السريرة؟
رحم الله إيفان شيرفاكوف!